للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

للدنيا التي عرفها بفلسفة طاغور وأدبه الرفيع الممتاز، فأقبلت عليه إقبالًا قوياً أحيا أملها بالفوز بالإخلاد إلى السلام ذات يوم، وجدد قواها، واستأنفت كبار العقول من أجل ذلك كفاحها، لا يعوقها عنه بعد الغاية ولا طول الطريق

عرف الناس طاغور لهذا، ولو عرفوه لغير هذا لكان أدل على الحجا وأدنى إلى الحق والصواب؛ وبسبب هذه المعرفة التي قدمتها (ستوكهولم) لهم، جاء عرفانهم لفضل هذا الفيلسوف الجليل قاصراً ناقصاً؛ فقد عرف أكثر الناس طاغور مفكراً وأدبياً، وجهلوه مربياً، ومصوراً، وموسيقياً، وصاحب فكاهة حلوة، ونادرة مستطرفة؛ أو بكلمة أخرى جهلوه فيلسوفاً اتخذ مختلف تعابير الفنون الجميلة وسائل لهديه الناس والسعي وراء إصلاحهم

وأن الإحاطة بهذه النواحي من طاغور، هي الإحاطة بفلسفته المثالية التي حاول رفع التفكير البشري إلى مستواها، فحسبها البشر أغراباً في الخيال يخالف حقيقة حياتهم المادية التي يحيون والتي انغمسوا فيها واندفعوا في تيارها مقهورين فيما يظنون وإنهم لمختارون. ولو شاء طاغور أن يكون مثل (نتشه) لكان، ولداهن الواقع، ونزل إلى سوية الناس وتطرف في الدعوة إلى القوة؛ ولكنه جاء إلى الدنيا برسالة تقول بالتطرف في الدعوة إلى الحق، فمن أجل هذا قام بينه وبين أهل عصره الخلاف، فلم يفز في أبان حياته بطائل مما رجا للناس من خير وسلام

ذلك من حيث كون طاغور مناراً في طريق البشرية نحو الكمال. أما هو في نفسه، فعلى العكس مما أخرجته قصور أسرته البرهمية العريقة في أرستقراطيتها: صوفي عظيم، يألف التأمل وينعم به، ولكن تأمله هذا لم يمنعه من الاندماج في الناس لأنه إنما كان يتأمل في خيرهم وصلاحهم، ولأن سعيه إنما كان في توحيدهم برغم إجماعهم على التنابذ والتخالف؛ وقد كانت نظرته إليهم نظرة متأثرة بفلسفة (الحلول) التي اشتهرت بها الهند، فجمعتهم روح الإله الأكبر، وظهرت أمامهم في مظاهر الكون الفسيح كافة لتستهويهم وتأسرهم بجمالها، ولتكون فتنة عقولهم التي تأسرها لذة التأمل العميق

على أن هذه الفلسفة لم تقف مانعاً في طريق طاغور، ليتأمل تلك القدرة المبدعة الجبارة التي زانت الكون وغمرته بفيض من جمالها الذي يثمل النفس، بل كانت الفلسفة (الحلولية) - على العكس من ذلك - طريقته التي استطاع أن يتلمس بها آثار تلك القوة القادرة

<<  <  ج:
ص:  >  >>