مطرودون، وان درسهم الذي كانوا يحبونه موقوف ممنوع، وان شيخهم الذي كانوا يكبرونه مكلف أن يدرس المغنى لابن هشام بدل الكامل للبرد، منفى من الرواق العباسي، مقرون إلى اسطوانة من هذه الأساطين داخل المسجد يختارها له (رضوان).
هنالك ضاق الشبان الثلاثة بعض الضيق، وفرقوا بعض التفريق، ثم يلبثوا أن استأنفوا الحياة ومضوا فيها باسمين، يطمحون إلى ما كانوا يطمحون إليه، يسخرون مما كانوا يسخرون منه، حتى ضرب الدهر بينهم بضرباته، كما قال حافظ رحمه الله في ترجمة البؤساء، وقد كانوا يعجبون بهذه الجملة إعجاباً شديداً، ويرددونها ترديدا متصلا. وهنالك مضى كل منهم في سبيله، واخذوا لا يلتقون إلا من حين إلى حين، فإذا التقوا كانت ساعات اللقاء أضيق من أن تسع ما كان يضطرب في نفوسهم من الخواطر والآراء والأحاديث.
وكانوا في حياتهم تلك، كما كانت الشعوب الأولى في حياتها، أصحاب حس وشعور، وأصحاب قلوب تتأثر، ونفوس تتغنى، وكانت عقولهم غافلة أو كالغافلة، فكانوا ينشئون الشعر وينشدونه، وقلما يفكرون في النثر، فان فكروا فيه قلما يحاولونه، فإن حاولوه فقلما يجيدون. وكانوا لا يخطر لهم موضوع إلا تناولوه مسرعين، فنظموا فيه الشعر وتنافسوا في الاجادة، ولم يتحرجوا من أن ينقد بعضهم بعضا. وكانوا يبلغون من ذلك ما يريدون يجيدون قليلا، ويسيئون كثيرا، ويرضون دائما. وكانوا يحسون انهم ضعاف في النثر، وانهم في حاجة إلى أن يأخذوا منه بحظ، وكان الزيات يحاول أن يقوم من صاحبيه مقام الأستاذ، لانه كان احب منهما للصحف، واكثر منهما عكوفا عليها وإغراقا في قراءتها، ويجب أن نعترف بالحق، فقد كان أوسع منهما صدرا للتجديد، يحب الكتاب المحدثين وما كانوا يحدثون من الآداب، على حين كان صاحباه يكلفان من الأدب بقديمه، بل بأقدمه. كان الزيات يكلف بالمتنبي بين الشعراء القدماء، وكان صاحباه يسخران منه ومن المتنبي، ويكرهان أن يسمعا له حين ينشد شعره البديع. كان الزيات يقرأ المثل السائر، وكان صاحباه لا يعترفان بمن بعد الجاحظ من الكتاب. كان الزيات يؤثر شوقي، وكان صاحباه يؤثران حافظا، ويتعصبان للبارودي، ويسرفان في تقديم الكاظمي عليهم جميعا. كان الزيات إذن يقيم نفسه من صاحبيه مقام الأستاذ في النثر، وكانا لا يتحرجان من أن يقرا له بهذه الأستاذية، فإذا أراد أن يزعمها لنفسه في الشعر كان الجدال والنضال، وكان تذاكر الغرزمة