أما أنا فلم اشك في أن مصر في الصباح موضوع خطير لابد من الكتابة فيه، ولكن أي مصر، أهي مصري أنا أم مصر الزيات أم مصر صديقنا محمود؟ فقد كانت لنا أمصار ثلاث مختلفة فيما بينها اختلاف غير قليل. كانت مصري أنا تبتدئ في ربع من ربوع حوش عطى، وتنتهي إلى الأزهر الشريف مارة بمشهد الحسين والحلوجي بعد أن يقطع السالك إلى هذا المشهد الكريم إحدى طريقين: حارة الوطاويط، أو شارع خان جعفر.
وأما مصر محمود فكانت تبتدئ في الظاهر في حارة ضيقة قريبة من بيت الشيخ الانبابي رحمه الله، وتنتهي إلى الأزهر الشريف مارة بما شئت من الطرق التي تستقيم إن أردت لها أن تستقيم، وتلتوي إن أحببت لها الالتواء.
وأما مصر الزيات فكانت تبتدئ في حارة ضيقة على قلعة الكبش، ثم تنحدر إلى شارع لا اذكر اسمه، ولكنه ينتهي إلى مسجد السيدة زينب. ثم تصل بعد ذلك إلى الأزهر من طرق تستطيع أن تستقيم وتستطيع أن تلتوي، تستطيع أن تقصر وتستطيع أن تطول. فأي هذه الأمصار الثلاث اصف؟ وعن أي الأمصار الثلاث اتحدث؟ فاما مصري أنا فقد كانت حلوة لذيذة في الصباح، ولكنها لم تكن تعجب الزيات، ولم تكن تلذ لمحمود. كان يوقضني فيها مع الفجر صوتان: أحدهما صوت المؤذن الذي كان يدعو إلى الصلاة في جامع بيبرس، والآخر صوت جارنا الشيخ الذي كان شافعيا موسوسا، ينفق نصف ساعة في إقامة الصلاة: ال. . . ال. . . الله الله. . ال. . الله اكبر، ثم يبدو له فيخرج من الصلاة أو يستأنف الدخول فيها: أل. . أل. . الله. . الله. . أل. . . الله اكبر ثم يمضي في صلاته حتى يتم الفاتحة أو يكاد وإذا هو يخرج ويستأنف الدخول فيها. وما يزال يقبل ويدبر، ثم يبدأ ويعيد، ثم يقيم الصلاة ويستأنف أقامتها حتى إذا أشفق من فوات الوقت عزم امره، وهجم على صلاته فاقتحمها اقتحاما ثم مضى إلى درسه في الأزهر الشريف.
استغفر الله فقد نسيت صوتا ثالثا كان يوقظني في السحر لا في الفجر صوت ذلك الشيخ الظريف الذي لم يكن عالما ولا شيء يشبه العالم، وإنما كان تاجرا اعرض عن التجارة، وانقطع للفكاهة والضحك في النهار، وللصلاة والنسك في لليل. فإذا اقبل السحر خرج من غرفته يهمهم ويجمجم ويضرب الأرض بعكاز غليظ، ويبعث في الجو صوتا هائلا رائعا يحمل جملاً متقطعة من الورد الذي كان يبدأه في غرفته ليتمه، ثم يستأنفه في مسجد