الحسين، حتى إذا صلى الصبح عاد هادئا مطمئنا قد خف وقع عكازه على الأرض، وخف ارتفاع صوته في الجو، لان الذين كانوا نياما في السحر قد اصبحوا إيقاضاً حين ارتفعت الشمس.
استغفر الله، وقد نسيت أصواتاً أخرى، كانت تنبعث بعد أن ينقطع صوت المؤذن: فهذا سائق عربة قد اقبل يحل خيله أو يحل حماره الذي عقله تحت النافذة. وهذه (حمدة) التي كانت تبيع الوان الفاكهة على اختلافها باختلاف الفصول تفرضها علينا نحن المجاورين فرضا. فأما اشترينا وأما تعرضنا لغضبها، وويل لمن كان يتعرض لغضب (حمدة) فقد كان عنيفا مخيفا يضطرب له الربع ويزلزل له حوش عطى زلزالاً!!
على هذه الأصوات كنت استقبل مصرا، وكانت تستقبلني مصر في الصباح، فإذا هبطت من الربع ومضيت إلى مدخل حوش عطى، فهذا صاحب القهوة قد افاق، وهو يحك عينه من بقية النعاس، ويهيئ (الجوزة) للحاج فيروز، فإذا مضيت قليلا فهذه الحوانيت تستيقظ شيئا فشيئا، وهؤلاء باعة الفول والبليلة والطعمية قد ازدحم من حولهم الناس، حتى إذا تقدمت بعض، الشيء عطفت ذات الشمال ان كنت مستعجلا، فمضيت من حارة الوطاويط، حيث اقذر مكان خلقه الله، وحيث اعظم الناس حظا من البؤس رجالا ونساءً، قد جلسوا في اقبح شكل وأبشعه يسألون الناس. وان كنت مستانياً عطفت ذات اليمين، فمضيت من خان جعفر، وانتهيت على كل حال إلى شارع الحسين، ثم المفارق الأربعة ثم انغمست في شارع الحلوجي، ثم دفعت إلى باب المزينين. هذه مصري التي كان الزيات يريدني على أن أصورها له في الصباح واقسم لو فعلت لنفر مني وهزأ بي وازور عني ازورارا. ولكني واثق الآن باني حين أتحدث إليه عنها أثير في نفسه عواطف يحبها وأحلاماً يرضاها وابلغ من استحسانه ما اقصر عنه من غير شك لو أني صورت له مصر في الصباح هذه التي تبتدئ من داري في الزمالك، وتنتهي عند الكوكب في عابدين.
ان الزيات ليحسن اعظم الإحسان لو انه وصف لنا مصره في الصباح، تلك التي كانت تبتدئ من قلعة الكبش، وتنتهي إلى الازهر، وانما محمودا ليحسن اعظم الإحسان لو انه وصف لنا مصره في الصباح، تلك التي كانت تبتدئ في ظاهر القاهرة المعزية، كما كان يقول، وتنتهي إلى الأزهر، فأما مصرهما الأخرى هذه التي تبتدئ في شبرا وتنتهي عند