العامي:(قاضي الأولاد شنق نفسه). . . فإذا وقفت على الباب خادماً يمنع دخول الأولاد، غضب الآباء المدعوون، وانصرفوا ساخطين على هذا الذي لا يعرف (حقوق الضيافة)!
وقد يكون لك عدو تعرض لك بأنواع الأذى، وأراك فنون العدوان. . . ثم نشأت له حاجة عندك، فزارك في دارك، وأبى أن يشرب قهوتك حتى تقضى حاجته، وربما كانت حاجته أن تنجح أبنه في الامتحان. . . فإذا قضيتها خنت أمانتك وعاد إلى مضارتك. . . وإن أبيت عليه وأعرضت عنه، وأفهمته أن الامتحان أمانة، وأن ابنه ضعيف كسلان لا يجوز نجاحه، كنت الملوم المعاتب، لأنك لم تحفل (بحقوق الضيافة)!
والضيف يزورك حينما يحلو له لا حين يحلو لك، ويبقى ما طاب له البقاء عندك، ولا شأن له بفراغك ولا بشغلك، ولا بضيق وقتك ولا بتعب أهلك، ففي الغداة تجوز الزيارة، وفي الضحى وعند الزوال ساعة الغداء، وفي الظل وقت الراحة، وفي الأصيل وفي الليل. وقد يصل الزائر هذه الأوقات كلها بعضها ببعض، فيشرفك بزيارته من الصباح ويلبث (يؤنسك) إلى وقت النوم، وقت منامه هو لا منامك أنت، وربما زارك أقرباؤك، أو أقرباء أقربائك بنسائهم ورجالهم وأطفالهم؛ وأقاموا عندك (صلة للرحم) أياماً وليالي، ونغصوا عليك عيشك، وافسدوا نظام دارك، وأنت مضطر إلى السكوت لا تستطيع أن تقول شيئاً يمس (حق الضيافة). وربما زارك الزائرون في محل عملك، فشغلوك عنه وأكسبوك غضب رؤسائك، وسخط زملائك.
ولقد كان الكرم والشجاعة عماد الأخلاق عند العرب وشعارها وجماع أمرها، لمكان البداوة من حياتهم، فقد كانوا يعيشون في قفار قاحلة وقرى كالقفار، لا فندق فيها ولا مطعم ولا خان، وما للنازح فيها عن داره إلا أن ينزل ضيفاً على كريم يؤويه ويقريه، ولم يكن في بلادهم شرطة ولا نيابة ولا سجن فلم يكن للرجل إلا سيفه يعتصم به، فتعودوا الشجاعة والكرم حتى صار ذلك طبعاً لهم وخلقاً، وبالغوا فيهما وجانبوا القصد، فبلغوا التبذير وقاربوا التهور، وكان عذرهم في ذلك أن الرجل منهم يطعِم حتى يطعَم، ويقري الطارق الغريب كي يقرى هو طارقاً غريباً، وأستمر ذلك إلى الإسلام، بل لقد بولغ فيه بعده حتى أتى القوم بهذه العجائب التي نقرأ أخبارها في الكتب. وانتهى ذلك إلينا فنشأنا على تقديس (حق الضيافة) وتقديمه على سائر الحقوق، ورفعه مكاناً عالياً لا يناله النقد ولا التقويم، واتهام من