تلك دالة الشباب يحسب أن السعادة خليقة أن تسعى إليه، وأنه إذا أومأ إليها بيده فلم تبادر إلى لقائه فقد أسرفت عليه في الدلال، واستوجبت منه الإعراض والملال.
وبعد حين كنت أحسب السعادة في النسيان فأقول:
لذة النفس في السلافة والشعر ... وفى الحب والكرى والغناء
خير ما في الحياة يا قلب ما أنسا ... ك ذكر الحياة والأحياء
وتلك هي مرحلة التجربة الأولى في انتظار التجربة الثانية.
فأما التجربة الأولى فهي تجربة الفتور الذي بعقب الإلحاح الباكر:
إلحاح الشباب في الآمال.
وأما التجربة الثانية، فهي التي تعقب ذلك الفتور أو تلك الراحة، من نشاط ووثوب.
وجاءت فترة كنت أحسب السعادة في الخطر:
عش آمن السرب كما تشتهي ... ما نحن ممن يغبط الآمنين
إن حياة الأمن في شرعنا ... مشنوءة مثل حياة السجين
كلاهما يخفره حارس ... مسدد النظرة في كل حين
أيتها الأخطار علمتنا ... بأننا الأحرار لو تعلمين
وهذه هي الفترة التي كنت أرى فيها الراحة حظاً للوضيع والتعب قسمة مفروضة على العظيم.
إن الشقي الذي لا صنو يشبهه ... وللأصاغر أشباه وأمثال
ثم تكاملت عواطف النفس فتاقت إلى نصيبها من المجاوبة الناضجة والمقابلة المستوفاة، وأيقنت أن السعادة مشهود لا يرى بعينين اثنتين بل بأربعة أعين، وعاطفة لا يحسها قلب واحد بل قلبان متفقان، فمن رامها بعينين وقلب فكأنهما يرومها شطراً مسلوخاً من جسم ميت، لأن الأجسام الحية لا تعيش شطرين.
إن السعادة لن ترا ... ها في الحياة بمقلتين
خلقت لأربع أعين ... تخلو بها ولمهجتين
لك مقلتان ومهجة ... أترى السعادة شطرتين؟
والنقيب بالزهاوي رحمه الله وأنا أومن بأن السعادة حقيقة وليست بأكذوبة، فلما قال الأستاذ