لهم ان الخير في تجريد السفينة مما عليها من الأشلاء، وفي تنظيفها من مظاهر الوباء، وفي التخفي وفي التستر لكي يسمح لهم بنزول الشواطئ. فبدءوا في رمي الجثث إلى البحر بسواعد تضطرب، وفرائص ترتعد. وجاء دور الجثث التي لم تمت بعد، فنظر إليها الرجال ولم يمدوا إليها يدا، ونظروا إلى الربان يستنبئون، فصاح بهم: لابد من إزالة كل اثر فقذفوا بأجساد لا تزال بها حرارة الحياة. وكان حكيم لم يمت بعد، فاسترحم واستغاث. ومرت رعدة شديدة في ظهر سكيم لما رآه يقذف إلى الماء. ولكنه لم يفعل شيئاً.
دبر الربان ودبر القدر، فحدث ما لم يكن ينتظر. سكنت الريح وكان تيار الماء قويا في هذه المنطقة فحمل السفينة معه، وحمل معها الجثث التي قذفت بها، فسارت حولها في موكب مريع، وازدحم الرجال على السفينة ينظرون إلى الرجال الذين يرقصون في الماء. ونظر سكيم فيما نظر صديقه حكيما يصعد في البحر وفي فمه صياح وفيه إزباد وارغاء، ثم يغطس غطسة فسرتها ست من زعانف سوداء، أكلت (القروش) حتى شبعت، ومع ذلك بقيت على المائدة بقية صحبت السفينة حتى بلغت ميناء (كلانج).
وكان البرق قد طير خبر السفينة إلى (سنغافورة) فخرج رجال الميناء يطلبونها. فأقبلت تتهادى في ثقة من النزول هذه المرة لأنها تخلصت من آثار الوباء أو خالت أنها تخلصت منه، ولكن حال الرجال التي حملت كانت تنم عن كثير، وغير هذا فقد دخلت تجرر في أذيالها على الماء من بقايا الأموات وثائق حية تعلن التهمة للرياح الأربع فأحاط بها الجند من كل ناحية، وساقوها إلى جزيرة العزل، أما الأموات فدفنوهم مع كثير من الجير، وأما البقية القليلة الباقية فمركزوهم في نطاق مضروب، ومرضوهم فمات منهم ثلاثة، وخرج الباقون بعد حين في ذهول كبير، إلى الدنيا بلا خوف، إلى الأرض الجامدة الواسعة الامينة، يستقبلون حياة جديدة وأملاً جديداً. وكان كلما نظر ناظر منهم إلى خلفه اقشعر.