وقبل الموعد المحدد لقيام القطار بنحو خمسين دقيقة كنت في الفندق الذي نزل فيه لأصحبه إلى محطة باب الحديد، ولكني لم أجده هناك، ثم حضر بعد لحظات، فكانت تحيته: لطفك يا دكتور! وحدق في وجهي لحظة ثم قال: هل تعرف أني قضيت مساء الأمس وصباح اليوم في البكاء لفراق القاهرة؟ فابتسمت وقلت: الجروح قصاص، فمن واجب القاهرة أن تصنع بك بعض ما صنعت بي بغداد، وأنا بكيت لفراق بغداد حتى رحمني أعدائي، فاشرب قطرة من الكأس الذي شربته حتى الثمالة. واحترس من التزيد على المحبين!
ولم يقع في الوهم إلا أن الدكتور الجمالي يلاطفني بالحديث عن تحزنه لفراق القاهرة، فهو من بلد له تقاليد في مراعاة الآداب الإخوانية، ولكن لم نكد نفارق الفندق في طريقنا إلى المحطة حتى غلب الرجل على وقاره، وأخذت دموعه تبلل خديه على ما يصاب به المتيمون.
ورأيت من الحزم أن أتجاهل ما يعانيه، لئلا يزداد عناء إلى عناء، فأخذت أشاغله بالسؤال عن معالي الدكتور سامي شوكت وسعادة الأستاذ طه الراوي، وانطلقت فسردت له عشرات من الأسماء التي أحبها في أرجاء العراق، ولم أطو عنه إلا أسماء من صادقت من رجال الجيش، فقد خشيت أن أسمع أن فيهم من قتل في الحرب التي دامت ثلاثين يوماً. وكان لي في الجيش العراقي أصدقاء لا يفدون بغير الأرواح، كتب الله لهم العافية من مكاره الصروف في هذه الأيام!
ثم بلغنا محطة باب الحديد وقد جفت دموع الدكتور الجمالي، فرأينا هنالك طوائف من الإخوان ينتظرون باسمين، فسرى عنه بأسرع من لمح البرق، وأخذ يحاور ويناضل بعزيمة لا تعرف البكاء.
وأراد الإخوان أن يصارحوه بحزنهم لفراقه فأشرت إليهم أن يكفوا، فسكتوا وقد فهموا أني أعرف من أمره ما لا يعرفون؛ والمصري أقدر الناس على فهم خطرات القلوب ولمحات العيون.
وكان الدكتور الجمالي مع هذا مهدداً برجعة البكاء، فقد كان يرى ناساً لا ينتظر أن يراهم في الساعة الثالثة بعد ظهر يوم من أيام رمضان، فكان يقول لمن يراه: غريق ألطافكم! غريق ألطافكم!