التي تحفظ من الضياع. والمؤرخ في أغلب الأحوال لا يرى الحوادث نفسها، وإنما يرى ويدرس آثارها. فآثار ومخلفات الإنسان المتنوعة هي نقطة البدء، والحقيقة التاريخية هي الهدف الذي يتوخى المؤرخ الوصول إليه. وبين نقطة البدء والهدف يوجد طريق معقد متشابك تعتوره الأخطاء والمصاعب والعقبات العديدة، والتي قد تبعد الباحث عن الهدف وعن الحقيقة التاريخية. والمؤرخ لا يجد غير هذا الطريق للوصول إلى غرضه. ودراسة وتحليل الأصول التاريخية في هذه المرحلة من أهم أدوار طريقة البحث، وهي عبارة عن ميدان نقد الأصول التاريخية.
وكما عرفنا نجد أن آثار الإنسان قد تكون أبنية وتماثيل ومصنوعات مادية ملموسة، أو قد تكون آثاراً كتابية سجلهاالإنسان عن الحوادث. فالنوع الأول أسهل في الدراسة لأنه توجد علاقة واضحة بين الآثار الماثلة أمام المؤرخ، والتي يلمسها بحواسه، وبين أسباب وجودها وارتباط ذلك بحوادث التاريخ. ولكن الكتابات التي يدونها الإنسان عن حوادث تاريخية معينة هي أثر عقلي سيكولوجي وليست الحادث التاريخي في ذاته؛ فهي لا تزيد عن أنها رمز وتعبير عن أثر تلك الحوادث في ذهن الإنسان. فالآثار الكتابية تنحصر قيمتها في أنها عمليات سيكولوجية معقدة وصعبة التفسير، لأن الإنسان نفسه على وجه العموم معقد مركب متضارب وصعب الفهم، فلا ريب في أن تكون حوادثه والتعبير عنها على ذلك الغرار. وللوصول من الأصل التاريخي المكتوب إلى الحوادث ينبغي تعقب سلسلة العوامل التي أدت إلى كتابته؛ فلا بد من أن يحي المؤرخ في خياله سلسلة الحوادث التي قام بها كاتب الأصل التاريخي منذ أن شاهد وجمع معلوماته عن تلك الوقائع المعينة حتى دونها في الأصل المكتوب والماثل أمام المؤرخ، لكي يصل إلى الحوادث الأصلية. ويلاحظ المؤرخ قبل البدء في نقد الأصل التاريخي وخاصة إذا كان مخطوطاً هل هو نفس الحالة التي وجد عليها من قبل؟ ألم يبل ويتآكل وتضيع بعض أجزائه؟ لكي يرممه ويجعله أقوى على البقاء والحفظ.
وتوجد عدة أدوار ومراحل للنقد. فالنقد الخارجي أو الظاهري يتعلق بعدة أمور مثل إثبات صحة الأصل والخطأ والمؤلف؛ والنقد الداخلي أو الباطني ويبحث الحالات العقلية التي مر خلالها كاتب الأصل التاريخي، فيحاول أن يعرف ما الذي قصده الكاتب؟ وهل كان