مادته، لكان ذلك عملاً نافعاً لمن لا يستطيع الوصول إلى إعداد تلك الصحف النادرة. وهذا الجزء يعتبر مثالاً لكيفية الانتحال، وتحذيراً للباحثين بعدم قبول أي مصدر بثقة عمياء.
والملكة (ماري أنطوانيت) من الشخصيات التاريخية التي دست عليها رسائل لم تكتبها، وهذا مما يجعل عمل المؤرخ صعباً. ولقد نشرت مجموعات من رسائلها تحتوي على الصحيح والمزيف منها؛ ولجأ المزيفون إلى الاقتباس من رسائلها الصحيحة وتقاليدها من حيث الخط والأسلوب. ولقد نشرت مجموعة من هذه الرسائل في باريس في (١٨٥٨)، وتحتوي على رسالة لم تنشر من قبل بتاريخ ٢٠ يونيو ١٧٨٩، تبين أن ماري أنطوانيت اعتقدت أن أسلم سياسة ينبغي أن يتبعها لويس السادس عشر، هي الانضمام إلى الشعب. فهل هذه الرسالة صحيحة أم مزيفة؟ ولم يمكن العثور على أصلها المخطوط، وهذا مما يجعل البحث صعباً. وبالدراسة المقارنة نجد أن ماري أنطوانيت كانت ميولها ضد الشعب، وهذا يميل بالباحث إلى الشك في صحة هذه الرسالة. إلا أنه من الجائز أن ماري أنطوانيت كان لها هذا الرأي المخالف لما عرف عنها، إنقاذاً للموقف؛ وهكذا لا يصل المؤرخ أحياناً إلى رأي قاطع في صحة بعض الأصول التاريخية.
وأخيراً نعرض لمثال درسه الدكتور أسد رستم. فإنه عندما ثارت مشكلة البراق بين المسلمين واليهود، وقدمت اللجنة الدولية لدرسها، ظهرت وثيقة في مصلحة المسلمين. ولكن اليهود عارضوا في صحة هذه الوثيقة، فعرضت على الدكتور رستم لفحصها من الوجهة الفنية التاريخية، فوجدها أنها عبارة عن رسالة صادرة من محمد شريف باشا حكمدار بر الشام في عهد الحكومة المصرية إلى السيد أحمد أغا دزدار متسلم القدس بتاريخ ٢٤ ربيع أول ١٢٥٦هـ (٢٧ أيار ١٨٤٠) يخبره فيها بصدور إرادة شريفة خديوية من محمد على باشا بمنع اليهود من تبليط البراق مع إعطائهم حق الزيارة (على الوجه القديم). وفحص الدكتور رستم هذه الوثيقة بوسائل النقد الظاهري والباطني، فوجد أن الوثيقة مكتوبة على ورق صكوكي قديم تركيبه الكيماوي وأليافه من نوع أوراق الحكومة المصرية في مصر والشام في ذلك العهد؛ والمداد الذي دونت به هو مداد استانبولي. وأثبت التحليل الكيماوي والفحص بالمجهر أنه مزيج من الكاربون التجاري والصمغ والماء؛ وأثبت المجهر أيضاً من أثر القلم على الورق أنها كتبت بقلم قصبي مما كان شائع الاستعمال في ذلك العصر.