للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

وتتجلى الروح العربية بأجلى مظاهرها في المفوضية العربية بالقاهرة. فبناء المفوضية من الطراز القديم، وغرفة السفير بسيطة خالية من الطنافس الأوربية الغالية، والقائم بشؤون المفوضية يرتدي الملابس العربية البدوية؛ وإن نظراته الحادة النافذة إلى أعماق قلوب زائريه وسمرة محياه واسوداد لحيته توحي لزائريه صورة من صور البادية وساكنيها.

ولا يتحدث السفير لزائريه إلا باللغة العربية، لا لأنه يعجز عن التكلم بلغة أخرى، ولكن لأن العرف العربي يحتم عليه ذلك. ويشعر المتحدث إليه لأول وهلة بأن نفسه تتوق لخيل الصحراء، وتصبو لجمال الرمال، وتشتاق لخيام البادية؛ ولولا ما تقتضيه التقاليد لعاف ما يحيط به من أثاث أوربي لا يلتئم وطبعه، ولاستبدل به الفراش العربي الوثير. وعندما قابلته المرة الأولى تردد في التأشير على جوازي، ولم يفعل ذلك إلا بعد أن أبرق إلى مكة طالباً موافقة جلالة الملك. فلما جاءته الموافقة زاد في إكرامي واعتبرني من ضيوف جلالة سيده. وفي زيارتي الأخيرة للمفوضية أقام لي وليمة عربية فاخرة اختتمها بحديثه الشيق عن الدور المهم الذي لعبه لورنس في الحجاز، ولم نفترق إلا ونحن صديقان حميمان.

جدّة

كانت الباخرة التي أقلتنا من السويس إلى جدة باخرة إيطالية صغيرة لم تر منذ أن أنزلت إلى البحر شيئاً من العناية أو الاهتمام. وكأن الخدم الصوماليين اعتادوا الإهمال حتى فيما يرتدون من ملابس بيضاء. وكانت ابتساماتهم الكثيرة وحسن تصرفهم لا تعوض عن رداءة الطعام. ويبدو لي أن الدعاية الإيطالية أغفلت البواخر الصغيرة المخصصة لنق المسافرين من إيطاليا فجدة فالحبشة. ويعزى سبب ذلك، حسبما أعتقد، إلى أن أغلب راكبي تلك البواخر من الإيطاليين أو المصريين أو العرب.

وكان من بين المسافرين القلائل شاب في قبيل العمر عرفت منه أنه ابن لأحد أغنياء المدينة المنورة قادم من اسطنبول حيث كان يدرس الطب بجامعتها. وكان يرتدي هذا الشاب الملابس الإفرنجية ويتكلم اللغة الإنجليزية والفرنسية، ويكثر من تدوير جرامافونه الصغير. وفي أحد الأيام دعاني إلى سماع جرامافونه في حجرته (قمرته) وما كادت رجلاي تتخطيان عتبة تلك الحجرة حتى شعرت بأن جميع المتناقضات اجتمعت في ذلك الشاب، وأن معالم المدينة الغربية وعالم الطب الحديث لا أثر لهما في تلك الحجرة

<<  <  ج:
ص:  >  >>