الصغيرة. فالمقاعد والكراسي، وحتى قاع الحجرة مغطاة بالرزم وبالصناديق وبالعلب، وكأن أحواض الغسيل خصصت لحفظ الموز والبرتقال، والرفوف عملت للطعام ولتعليق اللحم. والويل لمن أراد التنقل في تلك الحجرة الضيقة، فإن قدميه لا بد أن تصطدما بقدر أو بآنية ملقاة على الأرض، أو قد تزلان من أثر قشرة موز أو قطعة من البرتقال أليس هذا من المتناقضات؟ أو ليس بغريب أن تجد شاباً يدرس الطب بجامعة اسطنبول يستطيب طهي الطعام بنفسه وأكله على الطريقة العربية وحده؟
ومن الغريب حقاً أن ذلك الشاب لم يتردد في تقديمه الخمر والسجاير لمعارفه وهو عليم بأن قانون بلاده يحرم ذلك. إن في أفعال هذا الشاب يتجلى كرم المسلمين ممتزجاً بالملاذ التي لا يبيحها الدين الإسلامي. وكنت طوال سفري أسائل نفسي: أكان هذا الشاب مثالاً لشباب بلاده، أم قدر لي أن ألاقي في المملكة الوهابية ما لاقيته في مصر؟
و (جدة) بلد غريب كأنه مجموعة من البيوت الخالية في التناسق قذفها اليم إلى شاطئه المقفر المغطى بالرمال. فمياه البحر أمامها، والتلال الجرداء خلفها، والرمال تغطي الميمنة منها والميسرة. ومما يزيد في غرابة منظرها اختلاف أشكال أبنيتها: فبعضها مرتفع متعدد الطبقات، وبعضها واطئ يقتصر على طابق أو طابقين. وجميع هذه الأبنية مطلية بالجير المطفأ. والمدينة محاطة بسور قديم يضم تلك (الناطحات) البيضاء. أما أزقتها فضيقة، وهذا ما يجعل المنازل تبدو أعلى مما هي عليه من ارتفاع.
وتظهر (جدة) للقادم بأبنيتها الطينية العالية كأنها صورة ممسوخة لمدينة (نيويورك)، لكن ما يكاد يقترب المسافر من الشاطئ، حتى تظهر له الشرفات الخشبية التي يدعوها الناس هناك (بالمشربيات)، ويستطيع تمييز النقوش الجبسية المقتبسة من الفن الفارسي أو الطراز التركي التي تزين أبواب المنازل، والتي لا تعبر عن ذوق أو عن دقة في الصنعة أو مهارة في العمل.
ولا يفصل الصحراء عن المدينة إلا سور قديم كثير الأبواب عديد المسالك. وتحتل الأسواق والمقاهي وميادين بيع الحيوانات محلاً وسطاً بين المنازل. أما المفوضيات الأجنبية، فليست ببعيدة عن الأسواق والمحلات التجارية. ولولا كثرة الذباب وانتشار الغبار وضيق الطرق وقذارتها، لصح أن يقال: إن (جدة) مدينة جميلة. وتبدو المدينة أثناء الليل -