وبالأخص في الليالي المقمرة - أكثر روعة وجمالاً مما هي عليه في النهار. وإن المتجول في أزقتها الضيقة، ليحسب نفسه خلال تلك الليالي النيرة في عالم غريب أو في مدينة خالية. . .
الله أكبر. . .
وصلت (جدة) خلال موسم الحج لمكة. وتبعد مكة هذه خمسة وخمسين ميلاً عن جدة مينائها المهم والموضع الذي يضع الحاج ركبه فيه بعد طول السفر، وبعد ما قاسى من صنوف المشاق ما قاسى. وهي المرسى الذي ترسو فيه البواخر المقلة للحجاج من أقصى الأرض ومن أدانيها: من جاوة وسومطرة، من الهند وزنزبار، من السودان ومراكش، من الهند الصينية والصومال.
وقد بلغ عدد الحجاج في ذلك العام نيفاً ومائة ألف ازدحمت بهم الشوارع، واكتظت بهم الأسواق، وضاقت بهم المدينة. وكانوا يمثلون جميع الأجناس البشرية ومختلف ألوان الناس، ففيهم السيدات الجاويات الرشيقات اللاتي يسترن أجسامهن المستدقة بالساري الحريري الجميل، ويتجولن في الشوارع والأسواق جنباً لجنب مع أبناء البادية أصحاب النظرات الشزرة والشعور الكثة المغبرة، والأصوات الخشنة العالية؛ وفيهم الصينيون بعيونهم اللوزية، واليمانيون بجفونهم المثقلة، والنجديون بسيمائهم الناطقة بشدتهم وخشونتهم، والذين سرحوا شعورهم وضمخوها بالطيوب، وكحلوا عيونهم بالكحل، الفاحم، وبينهم من وضع حول عنقه قلادة مرجانية أو عقداً زجاجياً، وبينهم من تدلت من بيد أصابعه مسبحة كهرمانية طويلة، وفيهم من تجلبب بالملابس الكثيفة، ومن ترك جسمه عارياً إلا من قطعة قماش صغيرة تستر ما يجب ستره.
وفي اليوم الذي وصلت فيه (جدة) كان بعض الحجاج في عودته من مكة، وبعضهم يتأهب للسفر لزيارة قبر النبي (ص). ومنذ أن وطئت قدماي أرض الحجاز، أخذت أسائل نفسي عن العوامل التي توحد بين هذه الأقوام المختلفة خلال أيام الحج. ولكنني لم أقض بينهم أيام حتى أدركت أن قدسية البيت بمكة وحرمة القبر بالمدينة أقوى العوامل في التأليف بين قلوب هذا العدد العديد في المسلمين، وفي توجيههم وجهة واحدة على ما هم عليه من تباين في القومية واختلاف في العنصرية. ومع أنهم لا يتخاطبون فيما بينهم بلغة واحدة، ولا