المباركة أو بجوار البيت المقدس. ومن حسن حظ المسلمين أنه منذ أن وضع ابن السعود يديه على أرض الحجاز ساد البلاد أمان وعمها رخاء، وأخذ الحجاج يتمتعون باستقرار واطمئنان بعد ما ظلوا سنين طويلة يقاسون، فضلاً عن أهوال السفر ومشاق الطريق، اعتداء البدو من سكان الحجاز ونهبهم لأموالهم وأمتعتهم وطمع الموظفين الحجازيين فيهم.
وما تكاد تطأ قدما الحاج أرض الحجاز ويمتع بصره بمنظر جبالها الجرداء ووديانها القاحلة حتى يشعر بزوال ما كان يقاسيه من عذاب أثناء سفره الشاق. فكأن رؤية شواطئ البلاد المقدسة تذهب التعب عن نفسه، وتزيل المصاعب من سبيله، وتنسيه ما ينتظره من متاعب عند ما يعود إلى وطنه. وكم كان عجبي شديداً عندما شاهدت في صباح يوم وصولي إلى جدة جماعة من الحجاج شاخصين نحو تلك التلال الجرداء التي تخفي وراءها فبلة المسلمين وأمنية كل فرد منهم. وكانت عيونهم تشع بنور الفرح، وأفواههم صامتة حائرة، وقلوبهم خافقة واجفة من وقع ذلك المنظر الذي كان يوحي إليهم السر الإلهي والإيمان الصادق.
والله وحده يعلم ما سيشعرون به عندما يقفون خاشعين نادمين على ما اقترفوا من ذنوب وما آتوه من آثام حيال الكعبة المقدسة بكسوتها الموشاة بالذهب، أو عندما يستلمون بأيديهم المرتعشة الحجر الأسود المبارك، وعندما يضعون شفاههم عليه؛ ذلك الحجر الذي جاء به جبريل من السماء لإبراهيم الخليل، والذي ظل المسلمون يقدسونه طوال القرون الثلاثة عشر الماضية.
إن الأيام التي يقضيها الحاج بمكة والتي لا تزيد على خمسة عشر يوماً تمر كالحلم عليهم، وفي هذه الأيام القلائل ينصرفون إلى عبادة الله متناسين ما في الأرض من متاع زائل، كاظمين ما في قلوبهم من أحقاد، كابتين ما في نفوسهم من شهوات، متغاضين عن جميع الاختلافات العنصرية، والفروق المذهبية، والمطامع الفردية؛ كأنما اجتمعت أرواحهم جميعاً تحت سماء الكعبة التي سطرت على غطائها آيات القرآن وأحاديث الرسول.
وكم من الحجاج يستطيع التعبير عن شعوره أثناء وقفته تلك؟ إن ذلك اليوم هو اليوم الذي تنتصر فيه الروح على الجسد؛ وإن تلك الوقفة في ذلك الحرم المترامي الأطراف لوقفة تقرب المسلم من المسلم، وتجعله يسعر نحو أخيه في الدين بأعظم ما يشعر به نحو ابن