للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

والملكوت. افعل هذا واترك هذا. كن كذا ولا تكن كذا. . . حتى أدرك جادة الحياة الكبرى وبانت له تباشير المدنية المنشودة التي كان يحلم بها ويطلبها من الرسل كمعجزات. فأسرع إليها وغمرت حواسه دهشتها وأعاجيبها، وألهاه ذلك عن التفكير في نفسه فعاش في ضجة ما يصنع كما تعيش دودة القز في الشرنقة. . .

وقد خلى الله بينه وبين الحياة بعد أن ترك له وصاياه في الصحف الأولى. . .

قد يقول قائل: ماذا يريد ذلك الإنسان المحدود من ضجته في الأرض؟ ضجة حناجره ومصانعه ومدافعه وجراراته ودباباته وطياراته وبوارجه؟ إنه ضئيل، وإن مسرحه ضئيل. فهو شيء صغير على سطح الأرض وهي ذرة سابحة مع ملايين الملايين من النجوم والكواكب. فماذا عساه أن يصنع حتى لو ركب الأرض نفسها وصرفّ مقاليد سيرها كما يصرفّ مقاليد طياراته وجراراته؟ أليس الفناء نهايته ونهاية ما يصنع؟

فأقول لأمثال هذا: رويدكم. . . لا تتعجلوا نتائج حياة الإنسان ولا تشكوا في إنها ستكون عظيمة أعظم مما تتصورون بعد أن رأيتم من فعله ما لو رآه آباؤكم لماتوا عجبا!

إنكم تشكون فيه لأنه لم تثبت لحياته نتائج دائمة، وعندكم أن كل أعماله ملاه وسلويات في شئون خاصة كالشئون الخاصة بأي فصيلة من فصائل الحيوان

كذلك قال الذين لا يعلمون من آبائكم مثل قولكم. إذ لم يروا ميتاً يرجع ومفقوداً يؤوب. . .!

ولكن الأمر في حياة الإنسان وخلوده ليس كما تتوهمون أمراً متعجلاً، وليس ماضي عمره على الأرض طويلاً. إنه ثمرة لا بد من نضجها في زمن معلوم تظهر بعده نتائج خالدة وأسرار مخبوءة لها صلة وثيقة بالكون الطبيعي نفسه وبالروح الأكبر الذي وراء الطبيعة

وسيري الذين يذهبون الآن أنهم بعد الموت في دور انكشاف وظهور، إذ لا يعقل أن يمضي هذا الخالق الصغير إلى الفناء المطلق. . .

ثم أقول: ماذا تريدون أن يفعل إذن؟ أتريدونه ينام حالماً يدخن النارجيلة والحشيشة والأفيون كما يصنع أغلب إنسانية الشرق المضيّعة؟ أم تريدونه يجلس فارغاً ينتظر الموت وينشد الأشعار ولهو الأحاديث؟

إن عليه أن يملأ هذه الأرض بالضجة والقوة التي يستطيع تسخيرها، وأن يسلط قوى نفسه الكامنة على هذه المواد الساكنة ويثيرها أيما ثورة ليدخلها في نطاق الحركة بعد السكون

<<  <  ج:
ص:  >  >>