يناله جزاء تمسكه بما علّموه من الأخلاق. حدثني صديق لي أنه أنتسب في شبابه إلى الشرطة، فجعلوه رئيس مصلحة السير في بلدة من بلاد الشام، وكان ذلك منذ خمس وعشرين سنة أو في من ذلك، وكان مقره في (مخفر) في ظاهر البلد، فمر عليه رتل من السيارات فيه حجاج آيبون، وكان نظام تلك الأيام أن سيارة لا تجتاز على مخفره إلا بوثيقة وإذن، لا أدري ما صفتهما فقد نسيت دقائق حديثه، ولم يكن معهم ذلك (الإذن) فوقفهم ومنعهم من المرور إلا به. (قال) فغاب السائق هنيهة ثم عاد وفي يده صرة وضعها على مكتبي فيها أربعون ريالاً مجيدياً، وقال هؤلاء حجاج آيبون يريدون التعجيل بالوصول. . . وهذه الصرة ثمن (فنجان قهوة) رجاء السماح لهم الخ. . . فلما سمعت ذلك قفّ شعري وصحت به: أتريد أن ترشوني يا كذا وكذا، وأمرت به فوقف، واستلمت الهاتف (التلفون) أهتف بمدير الشرطة أرفع إليه الأمر وأنا أرى أنه سينزل به أشد الجزاء، فإذا به يأمر بإطلاقه، ويأذن للسيارات بأن تسافر على خلاف النظام، وأن يبعث إليه بالمال ليجري التحقيق. (قال صديقي) وذهب المال ولم يعد، وتركت العمل. ولو أني بقيت لطرحت على عاتقي ثقل الأخلاق التي تجعلني غريباً بين زملائي، وتحرمني من الغنى، وتكسبني غضب الرؤساء فلا يصيبني ترفيع، ولا يصل إلى خير. وليست هذه القصة فريدة في بابها، ولا هي نادرة من النوادر، بل هي قصة كل يوم، وهي الداء الذي يزداد ويسيطر والأساة عنه غافلون. وأين أساته وأهل السياسة مشغولون بالقتال على كراسي الحكم، هي الدنيا لهم وهي الأخرى، وأهل الأدب بين نائم يستمتع بشهي الأحلام، ومستيقظ قد ألهاه هواه، فهو يملأ الدنيا بكاء ونحيباً لأن صاحبته أسهرته يعد النجوم ولم تأته. . أو أنها قد وعدته بقبلة ثم وجدت أجمل منه أو أفسق فأعطته إياها. وأهل العلم يعيش أكثرهم على هامش الحياة لا هم له إلا مرتبه يقبضه من (دائرة الأوقاف) في مطلع كل شهر، ثم لا تراه ولا يراه أحد إلى الشهر الذي بعده، أو (حاشية) يقرؤها ويعيدها على من حضر مجلسه، قراءة تبرك لا قراءة تحقيق، فلا يرجع ولا ينتقد ولا يقابل قانوناً على قاعدة فقهية، ولا ينظر في مشكلة من مشاكل العصر ليرى حكمها. ومن اشتغل منهم بالمسائل العامة أخذ نفسه بالاهتمام بأمر لا يقدم في الدين ولا يؤخر، ولا يتوقف عليه إيمان ولا كفر. والشباب الناشئون لجهلهم حقائق الإسلام، وبعد ما بينهم وبين المشايخ، وقصر أيديهم وإفهامهم عن