وربما كان هذا المدين المماطل، وذلك الذي يأكل الدين وينكره، والذي يستعير الكتاب ويمسكه، ربما كانوا عند العامة من أقطاب الوقت وأولياء الله الكبار؛ ذلك لأن الناس جهلوا حقيقة التقى وبدلوا معناه، فكان التقي في صدر الإسلام هو الذي يتقي المحارم والمظالم ما ظهر منها وما بطن، ولا يدخل جوفه ولا جيبه إلا طيباً حلالاً، ويفر من مواطن الشبهات، ولا يطلب المال إلا لإمساك الرمق ونيل القوام. والعيش عيش القناعة والرضا، ولا يأخذه إلا من حلّه. ولم يكن الرجل ليشهد للرجل بالتقوى إلا إن صحبه في سفره، أو عامله في مال؛ فصار التقي اليوم من يكبّر عمته، ويطيل لحيته، ويوسع كمه، ولا تفارق يده سبحته، ولا يقف لسانه عن ذكر؛ ومن يتوقر ويطيل المكث في المساجد. وهذا كله حسن لا اعتراض عليه، غير أن حسنه ينقلب قبحاً أبشع القبح إذا اتخذه صاحبه أو حبولة يصطاد بها الدنيا، كذلك الذي كان وصياً على أيتام ضعاف لا يملكون حيلة، اغتر أبوهم بلحيته وسبحته فوصى بهم إليه، فجرعهم كؤوس المذلة والجوع، ونشأهم في الأزقة نشأة اللصوص، وأكل أموالهم وهو يقرأ كل يوم بصوته الجميل:(إن اللذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً)، وهو مع ذلك لا ينقطع عن الأذكار وحلقاتها، ويجهر بالبكاء إذا سمع الموعظة. . . وينكر أشد الإنكار على من يهمل السنن فيشرب بشماله أو يحلق لحيته، والناس يتبركون بلثم يده. فكيف السبيل إلى إفهام هؤلاء الناس ما هي حقيقة التقي كيلا يعظموا اللص ويجعلوه ولياً مباركاً، ولا يغتروا بالصلاح المجاني الذي لا يكلف صاحبه مالاً بل يجمع به المال، ويعلموا أن الله الذي وضع في نفوس الشباب شهوة الجسد وضع في نفوس (هؤلاء) المشايخ (لست أعني المشايخ كلهم) شهوة المال، وإنه لا فضل لأحدهما على صاحبه؛ وأن الشيخ التقي هو الذي لا يقيم للمال وزناً، ولا عبرة بغضه البصر عن النساء واتباعه سبيل العفاف؛ وأن الشاب الصالح هو الذي لا تغلبه على نفسه تلك الشهوة ولا عبرة يبذله المال. . .
لقد انحدرت أخلاقنا حتى صار الشاب منا حين يخوض خضم الحياة، ويرى الاختلاف بين ما علموه من الأخلاق في المدرسة، وما تواضع عليه الناس في الحياة، يقف حائراً مدهوشاً لا يدري ما يأخذ وما يدع؛ فلا هو يرتضي لنفسه التفريط في أخلاقه: صدقه وأمانته وعزة نفسه، ولا هو يرتضي الحرمان من المتع واللذائذ والمناصب العالية والمرتبات الكبيرة