فكانت حلقات الأدب في أوج نشاطها وكان المسجد الجامع يومئذ جامعة حقة يموج بهذه الاجتماعات العلمية والأدبية الشهيرة. وكانت دولة التفكير والأدب في بغداد قد أخذت في الضعف والاضمحلال وأخذت مصر تتأهب للقيام بدورها في رعاية التفكير الإسلامي في المشرق وكان بنو الإخشيد، محمد بن طغج وولداه انوجور وعلي ثم وزيرهم الخصي النابه كافور، مدى دولتهم التي استمرت زهاء ثلث قرن (٣٢٤ - ٣٥٨هـ)(٩٣٥ - ٩٦٩م) حماة للعلوم والآداب. وقد انتهى إلينا من آثار الحسن بن زولاق المؤرخ، أثر هام يلقي ضياء على تاريخ الحركة الأدبية المصرية في هذا العصر وهو كتاب (أخبار سيبويه المصري) وهو أبو بكر بن موسى الذي سبقت الإشارة إليه وقد كان صديقاً لابن زولاق وزميلا له في الدرس على ابن الحداد. وكانت له أخبار ومُلح ونوادر أدبية طريفة عُني ابن زولاق يجمعِها في هذا الكتاب. وفي دار الكتب نسخة خطية وحيدة من هذا الأثر لا ريب إنها من اقدم المخطوطات العربية التي وصلت إلينا بل لقد انتهينا في تحقيق شأنها إلى أنها اقدم مخطوط أدبي مصري وصل إلينا وأنها من آثار عصر الفسطاط ذاته وبخط ابن زولاق نفسه.
وفي اثر ابن زولاق هذا إشارات كثيرة إلى حلقات الفسطاط الأدبية في عصره في النصف الأول من القرن الرابع الهجري.
ويبدو من سياق كلامه أن المسجد كان مثوى لأهم هذه الحلقات وأشهرها وأنها كانت كما قدمنا دورية منتظمة تعقد على الأغلب في عصر يوم الجمعة وتجتمع بين الفقهاء والأدباء وينعقد فيها الجدل الكلامي والحوار الأدبي والشهري. والظاهر أيضاً أن هذا الجدل والحوار كان ينتهي أحياناً إلى بعض ما ينتهي إليه في عصرنا من مرارة واتهام وتراشق وأن بعض المفكرين الأحرار كانوا ينقمون من عصرهم ما ننقم من عصرنا أحياناً من اعتداء على حرية الرأي والبحث وأن بعضهم كان يرمى بتهم المروق والإلحاد إذا أطلق لنفسه حرية البحث والرأي على نحو ما يشير إليه سيبويه المصري في قوله من قصيدة أوردها ابن زولاق:
أما سبيل اطراح العلم فهو على ... ذي اللب أعظم من ضرب على الرأس
فأن سلكت سبيل العلم تطلبه ... بالبحث أبت بتفكير من الناس