الأسرة النابهة وجاهها وهيبتها فأضمحل نفوذ هذه الأسرة وتضاءلت أهمية هذه الحلقات الأدبية الباهرة التي اشتهرت بتنظيمها وعقدها زهاء نصف قرن. وفي نفس العام أمر الحارث بن مسكين قاضي القضاة بمطاردة الفقهاء الحنفية والشافعية وإخراجهم من المسجد الجامع وقطع أرزاقهم وحظر اجتماعاتهم.
وهكذا شتت شمل المجتمع الفكري في الفسطاط حينا وانزوت حلقاتها الأدبية الزاهرة حتى منتصف القرن الثالث ولكنها عادت فانتظمت وازدهرت واستعاد المسجد هدوءه وسكينته وردت حرية الاجتماع والدرس. وجاءت الدولة الطولونية (٢٥٤ - ٢٩٢هـ)(٨٦٨ - ٩٠٥م) فازدهرت في ظلها الآداب والفنون وكان أحمد بن طولون أميراً مستنيراً يحب العلوم والآداب ويرعاها بتعضيده وحمايته، ويجل مجالس العلم وحلقات الأدب. وكانت الفسطاط ومسجدها الجامع أيضاً مثوى الحلقات والمجالس العلمية والأدبية في هذا العصر؛ لأن مدينة القطائع التي شيدها إبن طولون لم تكن كما قدمنا سوى مدينة بلاط وبطانة. ونبغ في هذه الحقبة القصيرة عدد كبير من الأدباء والشعراء وبكت دولة الشعر دولة بني طولون عند ذهابها أيما بكاء فقال شاعرها سعيد القاص من قصيدة طويلة رائعة: -
طوى زينة الدنيا ومصباح أهلها ... بفقد بني طولون والأنجم الزهر
وفقد بني طولون في كل موطن ... أمر على الإسلام فقداً من القطر
تذكرتهم لما مضوا فتتابعوا ... كما أرفض سلك من جمان ومن شذر
فمن يبك شيئاً ضاع من بعد أهله ... لفقدهم فليبك حزناً على مصر
لبيك بني طولون إذ بان عصرهم ... فبورك من دهر وبورك من عصر
وفي أوائل القرن الرابع كانت الفسطاط تضم جماعة كبيرة من أقطاب المفكرين والأدباء وكانت أبهاؤها ومجالسها الأدبية حافلة زاهرة. ففي تلك الفترة اجتمع من زعماء التفكير والأدب أبو القاسم بن قديد وتلميذه أبو عمر الكندي مؤرخ الولاة والقضاة، وأبو جعفر النحاس المصري الكاتب والشاعر، وأبو بكر الحداد قاضي مصر، وأبو القاسم طباطبا الحسيني الشاعر، وأبو بكر بن محمد بن موسى الملقب بسيبويه مصر، والحسن بن زولاق المؤرخ الأشهر وكثيرون غيرهم؛ فكان لاجتماع هذه الصفوة العلمية والأدبية البارزة في هذه الفترة أثر كبير في ازدهار الحركة الفكرية بمصر في أوائل القرن الرابع.