للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

لقد شق عليه الأمر ومرت برأسه خواطر متشعبة: أيبرم الميثاق فيضيع على نفسه ما تنعم به من كرامة الذات واستقلال الرأي، أو يأبى عليهم التوقيع فلا يبقي له شيء يعيش عليه إلا ما يعتز به من احترام النفس واحترام النفس وحده. ثم أخذ يسألني عما يجمل به أن يختاره من مصير

والحق أنه لم يشق علي النصح مثلما شق علي من أمره. فهل كان يسعني أن أقول له: (لا توقع، وسأرى أنه ما من ضير يصيبك أو ينتظرك في هذا السبيل؟). نعم لقد كان مثل هذا القول سهلاً ميسوراً؛ ولكن يا لها عندي من شجاعة رخيصة أن أقول لرجل كن مقداماً جريئاً فأحمله على أن يجازف بمقومات حياته وأسباب عيشه من غير أن أهيئ لغيرها السبيل!! والحق أني كابدت من أمر (قضيته الوجدانية) نصيباً لا يقل عما يكابده فيها من نصيب

ولعله كان بسبب ما يعوزني من شجاعة أدبية أن حاولت إعفاء نفسي من نصحه. وبدلاً من أن أتقدم برأي سألت سائلي أن يخبرني عن حقيقة مشاعره، ثم ناقشت معه جميع الفروض والاحتمالات المرتبطة بالقبول أو المترتبة على الرفض. وإذ علمت من أمره أنه قد عقد النية على ألا يبرم الميثاق وأجمع رأيه على أن يحمل لهم حياته في كفه تاركا للمقادير أن تفعل به ما تشاء، فقد رأيت أن ألبس في تفنيد حججه ثوب الدفاع. وعرضت له القضية من ناحية أخرى هي ما يصيب الشعب الألماني من ضرر إذا ما اجتثت من تربة الصحافة الحرة جميع الدوحات المباركة، وحرمت الصحافة الألمانية من رجالها الأمناء النابهين. فاستحال عليهم في المستقبل القريب أو البعيد ترقب النهزة واغتنام الفرصة لمعاودة الجهاد وإصلاح المعوج وتقويم السبيل. والحق أني ما حاولت أن أحمله على العبث بوجداناته إلا لأرفه عن نفسه عبء ما يشق عليها من مسئولية أدبية لما يتهدده وينتظره إذا لم يلب الدعوة ويبرم الميثاق. وكان أكبر همي أن أنقذه من نفسه فلا أدعه في ثورته النبيلة وغضبته العادلة يقرر لنفسه مصيراً عساه يلومها عليه فيما بعد

لقد عقد النية على التضحية بمادته والاحتفاظ بمثله؛ وكانت له الخيرة بين القبول المغني والرفض المفقر. فآثر الرفض على القبول، وتأبى عليهم في عزة وأنفة إبرام العهد، وكان قدراً مقدوراً أن فقد مركزه وضاعت أرزاقه. ومنذ ذلك الحين أخذ يضرب في الأرض

<<  <  ج:
ص:  >  >>