ولقد تناول المؤلف في حديثه هذا أصول الفن مطوّقاً بالمصادر التي استمدت منها شاعرية فيرلين ألوانها الباهرة، واستلهمت أنغامها الساحرة؛ ثم تناول شخصية فيراين بالاستقراء والتحليل، هذه الشخصية التي قال أناتول فرانس في صاحبها:(إنه سقراطي بالفطرة أو خير من ذلك، مخلوق خرافي، حيوان غابة، نصفه إنسان، ونصفه حيوان، نصفه وحش ضار، ونصفه إله، هائل كقوة طبيعية غير خاضعة لشريعة ما. . .)
ولقد وفق المؤلف في تفصيل ذلك كله وكان رائعاً ومتواضعاً في ترجمته لقصيدة فيرلين في الخريف، بل إن أمانة النقل تبلغ في هذه الترجمة مبلغاً عظيماً مع الاحتفاظ بالروح الغنائي المرح الذي يفيض به شعر فيرلين
وفي عشرات الكتب والدراسات التي وضعت عن فيرلين تجد المؤلف قد ألم بالكثير من الآراء، وقرّب هذه الشخصية العجيبة إلينا، ولو أضاف إلى ما كتبه رأي (فرنسوا بوشيه) في علاقة فيرلين برامبو لانتهى إلى الحقيقة ولما قال إنها لا تزال موضع تحقيق النقاد والمؤرخين
أما بودلير فقد عرض المؤلف لفنه وللعوامل الموضوعية والذاتية في شاعريته أكثر مما عرض لسيرة حياته، وإن كان لم يهمل ما رآه متصلاً أوثق الاتصال ببحثه القيم النفيس، فقد تناول جانباً من حياة هذا الشاعر يلقي ضوءاً على المؤثرات التي عملت عملها في شذوذه وغرابة طباعه وأطواره وحماسته في عبادة شهواته، وكان حديثه رائعاً عن نشأة بودلير ورحلته إلى جزائر الهند، وعن أوكار الحشيش والأفيون، وهذه الأجساد التي تنضح بشهواتها وتسترق أنفاسها من دخان العطور الشرقية المخدرة؛ كما كان حديثه بليغاً وبديعاً عن هذه الفتاة السوداء التي نصبها بودلير إلهة للجمال بجسدها المعتل السقيم الذي يملأ الكلف أو البقع أديمه وهو يتخلع في ثوب مهلهل خلق. . .
ومن الحق أن نسجل في هذا الفصل للأستاذ المؤلف قوته البيانية وطلاقته الفنية وحرارة تعبيره وإن كنا نأخذ عليه الإيجاز في محاكمة بودلير مع أنه عرض لها أكثر من مرة في فصله هذا مما يدلنا على إلمامه بدقائق هذه المحاكمة وخاصة عندما نوه بزعيم الإبداعيين فيكتور هيجو ودفاعه عن بودلير كفنان، وقد كان على المؤلف أن يشبع الموضوع بتفاصيل هذا الدفاع