فهذا الصرح كان آية من آيات الفن الجميل، وهو يدل أكبر دلالة على عظم ازدهاره في ذلك العهد، وكان سليمان قد شيد ذلك الصرح لبلقيس ليريها عظمة ملكه، ويطلعها على براعة أرباب الفنون في دولته، فأقامه من الزجاج الأبيض كالماء، وأجرى الماء تحته، وألقى فيه السمك والضفادع وغيرهما من دواب البحر، ثم وضع سريره في صدر المجلس وجلس عليه، فلما أقبلت بلقيس قال لها سليمان ادخلي الصرح، فحسبته لجة أي ماء عظيما، وكشفت عن ساقيها لتخوضه إلى سليمان في صدر المجلس، فقال لها أنه صرح ممرد من قوارير، فحينئذ سترت ساقيها، وعجبت من ذلك غاية العجب، وعلمت أن ملك سليمان من الله تعالى، فأسلمت لله رب العالمين.
وكذلك ورد فن الغناء في القرآن الكريم منسوباً إلى داود عليه السلام، وإليه الإشارة بقوله تعالى:(ولقد آتينا داود منا فضلاً يا جبال أوبي معه والطير وألنا له الحديد) ١٠ من سورة سبأ، ولهذا يقال - نغمة داود - مثلاً في طيب الصوت، وكان عليه السلام إذا قام في محرابه يقرأ الزبور عكفت عليه الوحش والطير تصغي إليه، ويقال أيضا - مزامير داود - لأنه فيما قيل كان له مزامير يزمر بها إذا قرأ الزبور، فكان إذا اجتمع عليه الإنس والجن والوحش والطير أبكى من حوله. وقال المبرد:(مزامير آل داود كأنها ألحانهم وأغانيهم)، وقال غيره:(إن طيب صوته ونغمة نغمته شبها بالمزامير ولا مزامير ولا معازف هناك)
وكان عثمان بن عفان أول من عنى بتلك الفنون بالإسلام، ولهذا أخذ عليه أعداؤه أنه بدل الإمارة على المسلمين من زي النسك إلى زينة الملك. وقد نقل ذلك أبو نصير العتبى في كتابه (اليميني عن رسالة ألبستي في الترجيح بين الصحابة)، وهذا شيء نراه مفخرة لعثمان رضي الله عنه - وإن رآه أولئك المتنطعون في الدين مذمة له - وقد أخذ عثمان يهتم بتزيين المملكة الإسلامية بعد أن استقر أمرها، وتغلبت على دولتي الفرس والروم؛ فلم يعد من اللائق أن تبقى على مظاهر البداوة، وقد دان له من دان من أهل الحضارة.
وكان مسجد المدينة أول ما عمد إلى تشييده، فهدمه وبناه بالجص والحجارة، وأحضر له مهرة البناءين من المملكة الإسلامية الواسعة. ثم أتى الوليد بن عبد الملك فأرسل إلى عامله