أمامها بركة مرخمة ... ترضى إذ ما رأيت مرمرها
أعارها البحر من جداوله ... لجا غزير المياه أخضرها
أفلا ترى انك في كل بيت، حيال زهرة تقطفها، وريحانة تنشقها، وبركة إطارها من مرمر ومياهها أشبه بمياه بحر اخضر؟
ثم أن حاسة اللون عند ابن الرومي حاسة زاكية متوفرة: وهي في شعره بمنزلة علبة الألوان عند الرسام. لا تقوم صورة إلا بها، ولا تأخذ حظها من الحياة والحركة إلا بأصباغها. فحين يصف لك الكأس تترقرق فيها الخمر لا يشبهها بحصباء من الدر على ارض من الذهب، وإنما يوكل بها حاسة اللون الزاكية اليقظة فلا تكاد تعرض إلا للونها البراق وشعاعها الخفاق. وقد يكون حظ ابن الرومي من تألق الخمرة ولهيبها. اكبر من حظ أبي نؤاس من نشوتها ودبيبها
صفراء تنتحل الزجاجة لونها ... فتخال ذوب التبر حشو أديمها
لطفت فقد كادت تكون مشاعة ... في الجو مثل شعاعها ونسيمها
ولقد عرض قوس قزح لعيون الشعراء ما عرض، فلم نر شاعرا قبل ابن الرومي أو بعده استطاع أن يصور ألوانه الطبيعية في أبياته تصوير الرسام له في لوحته وألوانه. فأنت تحت سحاب مطرز بالألوان، مرصع الأردان ما دامت تقرأ له هذه الأبيات
وقد نشرت أيدي الجنوب مطارفا ... من الجو دكنا والحواشي على الأرض
يطرزها قوس السحاب بأخضر ... على احمر في اصفر اثر مبيض
كأذيال خود أقبلت في غلائل ... مصبغة والبعض اقصر من بعض
واحب أن تلتفت إلى البيتين الأخيرين فان فيهما من جودة التصوير ومهارة تثبيت الألوان ما يعجز عنهما شاعر غيره.
وابن الرمي حين يصف القيان الشوادي والجواري الفواتن يدرن الكؤوس ويملكن النفوس، ويبرز لنا أعضائهن عضوا عضوا ويعرض علينا أجسامهن عرضا، حتى لا تفوتنا بضاضة الإهاب ولا شفافة الثياب
من جوار كأنهم حوار ... يتسلن من حياة عذاب
لابسات من الشفوف لبوسا ... كالهواء الرقيق أو كالسراب