إن الأقدار تصنع عقل الإنسان الحديث وقلبه صناعة تشترك فيها كل معارف الحياة العصرية.
ومن الأعمال العظيمة التي تقوم بها الطبيعة الآن عملها في تكوين الإنسان الواحد الخاضع لمؤثرات الواحدة. ونحن الذين يقع علينا تأثير أعمالها العظيمة ونعيش في غيبوبة عن خطواتها بنا لا يدرك منا هذا التأثير إلا الراصدون المسجلون الذين تجعلهم الأقدار مخصصين لرصد خطوات الحياة وتسجيل ظواهرها. وهؤلاء يكادون يكونون نادين عن حبال الشبكة التي تلف غيرهم من أبناء الحياة.
لقد تركزت المعلومات فصارت القارات كالقرى. . . وملايين الجنود كأصابع اليد. . . والدبابات كالنعال. . . والطائرات كالعصافير. . . وأخبار العالم كله كأخبار الحي الواحد. . .!
وهكذا تتركز الحياة وتتلخص في فكر الإنسان وتختزل صورها العظيمة في أرقام وحروف. . .
هذا العصر جدير أن يسمى (عصر الفوران والغليان) - على سبيل التشبيه بسطح ماء في وعاء على نار - فقد لبث سطح الحياة ساكناً في عصورها السالفة لا يتحرك إلا حركات موضعية. كما يلبث سطح الماء أول ما يوقد عليه في النار. حتى إذا ما وصلت حرارته إلى درجة الغليان هدر وفار وأشتد وقذف وتبخر وتحول. . .
إن عوامل الحرارة كانت تحته من قديم، ولكنها لم تصل معه إلى درجة الإنضاج والحركة السريعة والتحويل إلا أخيراً. وكذلك عصر الإنسانية الحالي هو عصر ظهور كوامن أسرارها وأسرار الطبيعة ظهوراً شديداً متلاحقاً.
وقد انكشفت حيوات جميع الناس للناس؛ فعلموا أنواعهم ولغاتهم وأديانهم ومذاهبهم في الحياة.
وقد كانوا ضائعين مغمورين تائهين كأسرة مفرقة فرقها حادث. . . ثم جمعتهم الظروف مرة ثانية. . .
أني أتخيل صورة الدنيا في عقول ساكنيها الأولين، وصورتها الآن في عقول بنيها