الأصول التاريخية الأخرى، يصبح عمل المؤرخ شبيهاً بعمل القاضي، والقاضي يمتاز بأن شهود الحوادث أحياء أمامه بالحق أو بالكذب ينطقون، ولكن المؤرخ عليه أن ينتقل من الحاضر إلى الماضي بالعقل والنقد والخيال، وأحياناً تضيع عبثاً جهود المؤرخ لمعرفة اسم وشخصية كاتب الأصل التاريخي فيظل مجهولاً، وأحياناً أخرى لا يمكن للمؤرخ إلا أن يجمع بعض المعلومات القليلة عنه، ونلاحظ أن وضع اسم شخص على أصل أو مصدر تاريخي لا يفيد دائماً أنه كاتبه كما فهمنا ذلك من عوامل الدس والانتحال. وإذا عثر الباحث على الأصل التاريخي المخطوط أمكن في أحوال كثيرة التعرف على شخص الكاتب أو الاقتراب منه على الأقل، بدراسة الخط ونوع الورق والحبر واللغة والأسلوب والمصطلحات الخاصة بعهد تاريخي معين وبدراسة المعلومات التاريخية الواردة به
وإنه ليختلط الأمر أحياناً على الباحث في التاريخ فيخطئ في نسبة الأصل التاريخي إلى كاتبه الحقيقي. ومن الأمثلة إلى ذلك ما ذكره الأب بولس قرالي أنه عند حضور علي باشا أمير البحر التركي إلى المياه السورية لفض النزاع القائم بين فخر الدين أمير لبنان ويوسف سيفا صاحب طرابلس في يوليو سنة ١٦١٩، أرسل الأمير فخر الدين رسالة إلى الباشا التركي يعتذر فيها عن الحضور إليه بنفسه. ويقول الأب قرالي أن الأستاذ اسكندر المعلوف قد أورد ترجمة هذه الرسالة باللغة العربية في كتابه عن الأمير فخر الدين. والأستاذ المعلوف يعتبر أن هذه الرسالة قد صدرت عن فخر الدين ولكنه يتشكك في تاريخ إصدارها ولا يمكنه أن يحدد ذلك ويذكر الأستاذ المعلوف أنه قد نقلها عن ريكو والوقع إن هذه الرسالة ليست لفخر الدين. والمؤلفان كنوللس وريكو قد أخذا معلوماتهما عن هذه الفترة عن كتاب مينادوى الرحالة الإيطالي المعاصر الذي زار سوريا ولبنان أثناء حملة إبراهيم باشا لإخضاع الدروز في ١٥٨٥. ومينادوى يورد نص هذه الرسالة باللغة الإيطالية، ويقول أن ابن معن قد أرسلها إلى إبراهيم باشا في يوليو ١٥٨٥. ولقد نقل كنوللس هذه الرسالة عن مينادوى إلى اللغة الإنكليزية. ولا يحدد مينادوى ولا كنوللس (وريكو) من هو المقصود بابن معن. على أنه لا يمكن أن يقصد بابن معن في ذلك المقام الأمير فخر الدين، لأنه كان إذ ذاك غلاماً صغيراً، والمقصود بابن معن، هو قرقماز بن معن والد فخر الدين، وليس فخر الدين نفسه. والذي حاول إبراهيم باشا أن يحمله للقدوم عليه للغدر به. وبالبديهة