التاريخي الذي دونه. فمثلاً الكتابة المؤرخة في ٢٤ يونيو ١٧٨٩ عن بعض حوادث الثورة الفرنسية في باريس وفرساي يفهم الباحث من لغتها وأسلوبها وطريقة عرضها ومعلوماتها أن كاتبها شخص مثقف، وأنه شاب قوي الجسم يمكنه أن ينتقل من باريس إلى فرساي أثناء المطر المنهمر، ويدرك الباحث أنه شخص متحمس جرئ ثوري، يتكلم بصراحة ويقرر أن ممثلي الشعب لا يخافون الموت، ويعلم الباحث أيضاً أن الكاتب كان مهتماً بالحوادث التي شهدها لدقة وصفها وحسن التعبير عنها. ولا ريب فأن هذه الوصاف تنطبق على (كاميل ديمولان) الذي كتب عن تلك الحوادث.
والمسالة التالية في هذه الناحية من النقد هي معرفة زمن تدوين ذلك الأصل التاريخي. فالأصل أو الوثيقة قد تكون صحيحة، وكاتبها قد يكون من الأشخاص الذين يتحرون الصدق والبعد عن الهوى، ومع ذلك فقد ينقص من قيمتها بعد الزمن بين وقوع الحادث ورؤيته وبين تدوين أخباره. فالذاكرة تخون الإنسان، ويفوت الكاتب حوادث وتفاصيل خاصة كلما بعد به العهد عن زمن وقوع الحادث مهما كانت رغبته في قول الصدق ومهما حاول استرجاع وقائع الزمن الماضي. فإذا كان الكاتب لم يحدد تاريخ تدوين الأصل التاريخي، فكيف يستطيع الباحث أن يحدد ذلك ولو بالتقريب؟ في بعض الأحيان يمكن دراسة المحتويات وضع حدين لمبدأ ونهاية الأصل؛ أي أنه يعين التاريخ الذي لا يمكن أن تكون الحوادث قد وقعت قبله والتاريخ الذي لا يمكن أن تكون هذه الحوادث قد وقعت بعده. ولتحديد ذلك ينبغي أن يكون الباحث صاحب ثقافة تاريخية واسعة تتعلق بالعصر الذي يدرسه. ولا بد أن تكون الوثيقة أو الأصل قد دون بعد آخر حادث ورد به؛ ولكن من الجائز أن يكون التدوين قد حدث بعد ذلك بزمن قصير أو طويل. وإذا فرضنا أن كتاب سفير البندقية في باريس لم يكن مؤرخا، فأنه يمكن معرفة تاريخ كتابته بدراسة محتوياته. فالحوادث التي ذكرها السفير هي حوادث يونيو ١٧٨٩؛ وآخرها حادث ذكره هو اجتماع مجلس طبقات الأمة في ٢٧ يونيو ١٧٨٩؛ وعلى ذلك فلا بد أن السفير قد دون كتابه بعد ذلك الحادث مباشرة وقبل أن يقع حادث آخر مهم. والمجلس اجتمع بعد ذلك في ٣٠ يونيو؛ فيكون السفير إذاً قد كتب خطابه إلى مجلس شيوخ البندقية في ٢٨ أو ٢٩ يونيو ١٧٨٩.
ثم يواجه الباحث في التاريخ مسألة أخرى هي مسألة تعيين مكان تدوين الأصل التاريخي؛