وتبقى الجماهير بثورتها البهيمية أشبه بتلك القبائل الهمجية في حفلاتها الهائجة المائجة، وذلك كله لا مثيل له في أمة راقية من عالم المدنية.
والأعجب أن المغنين لا يظهرون امتعاضاً من هذا الاعتداء الصارخ على فهم لعلهم يهذبون هؤلاء المستمعين، بل هم يسرون بعمل المعتدين، إذ يعتبرونه دليل الاستحسان لفنهم، وإنما هو استحسان لشيء مخجل في غير محله ووقته؛ ولو كان للفن في ذاته تقدير وحرمة عند تلك الجماهير، لأظهرت استحسانها بعد سماع الأغنية أو الجمل الممتازة في غنائها، كما يفعل المستمعون بأنصافهم العليا وحدها من أهل المدنية.
فمجمل كلام الشاعر الفاضل أن المدرسة الحديثة أبدلت الحب الروحاني بالحيواني في الأغاني، وضمنتها شتى المعاني، وقد فضل الأغاني الحديثة، بمقاصدها وعباراتها، على أغاني عهد مضى؛ وبرر ما فيها من الشكوى، وهي تفجع وهوان، ودافع عما يسمونه الموسيقى الجديدة ولم يبين ما هي، وما هي إلا تخليط شنيع.
وذلك كله يتعلق بالعرض من فنون الغناء والموسيقى، سواء أعد من الصفات المستحسنة أم العيوب المستهجنة. أما الذي يتعلق بالجوهر فهو الداء المفسد الوبيل، الموجب للنقد، المتأصل في تلك الفنون، وهو ما لم يذكر الشاعر ولم يشر إليه الصوت الرسمي بحرف.
ألا إن وجه النقد الباقي بحذافيره راجع إلى (ماهية الموسيقى والغناء الأصلية، أي الدلالة الصوتية على الأحاسيس والخواطر)، عائد إلى عيوب الائتلاف (بين معاني كلام الأغنية ومعاني لحنها وغنائه، ومعاني موسيقاها)؛ وهو منصب على جهلنا (أن اللحن الموسيقي إنشاء يجب ألا تتضارب الجمل الصوتية في سياقه) من (تخليط قديم مسيخ بمسروقات محرفة من الألحان والموسيقى الغربية، القديمة والحديثة، ومن أصوات الجاز)؛ وهو منبه على أننا لا نسلك سبيل الشرقيين القدماء، أو الغربيين المعاصرين لنا؛ في التغني بمختلف الأحاسيس في مواقف الحياة الإنسانية المحوطة بجمال الطبيعة، ومنبه أيضاً على أننا لا (نقلد الغرب فيما ارتقت إليه موسيقاه من التصوير. الذي عظم شأنه بالتحسين والابتكار في المعازف).
وقد قلت إن (الفنان يؤثر في بيئته وجمهوره وإن تأثر منهما، ومن هنا نصيبه في تهذيب ذوق الجمهور وإعلاء مثله الأعلى بقدر مواهبه وسحر فنه؛ ومن هنا تبعة الفنون الضالة