إذا كان الشعب تغنى بها لأنها الشكوى التي في دمه فلم كانت غريبة على السمع والخاطر معاً أول الأمر؟؟ وإذا كان يتغنى بها لغير ذلك، أو لهذا وذاك، فباب الأمل مفتوح لمن يتوخى الإصلاح: لأن (المدرسة الحديثة) تقرر أن فنها قد غير ذوق الشعب في زمن قصير، أوله سنة ١٩٢٥، حتى قبل ما كان غريباً على السمع والخاطر، فتغنى به الناس في كل مكان. وهذا تقرير يؤخذ منه أن ما في دماء المصريين من الشكوى، على قول صاحبه، لم يحل دون تذوق الموسيقى الجديدة التي خلطت الأوبرا بالجاز، وأن تغيير الذوق المصري في مدة وجيزة أمر ممكن. فلم يبق إلا أن نجعل التغيير إصلاحاً بدل الإفساد، ولو في زمن أطول.
بيد أن الإصلاح المنشود قد يمتد به الزمن امتداداً لا نهاية له إذا كانت الجهات التي يجب عليها أن تؤيده تميل - على العكس - إلى معارضته بمثل الصوت الرسمي الذي قرر أنه (يجب ألا ننسى اختلاف الأذواق وتباين وجهات النظر في التقدير عند البحث في جمال الصوت وسلامة الأغنية من العيوب التي يشكو منها بعض دعاة الإصلاح).
أي نظر وأي ذوق عناهما هذا الإيجاب؟ أي نظر، يا ترى، في مثل الفرق الواضح بين الليل والنهار، ونحن نتمنى أن يسمو بنا التعليم والتهذيب إلى أعلى مستويات الأمم الراقية في هذا العصر المنير؟! نرجو ألا يكون نظر العامة وأشباه العامة ممن تغرهم قشور من معارف لا يدركون ما وراءها من حقائق، نظر جماعات كأن أبصارهم لا تتصل بسوى أجسادها، فلا علاقة لها بأنبل ما في النفس الإنسانية من ملكات؛ أو نظر أفرادٍ ضئيل تهذيب مشاعرهم في الحياة، قليلٍ إطلاعهم على تحف من أنواع الفنون، تافهةٍ ثقافتهم الفنية، سقيمةٍ بهذا النقص آراؤهم في الغناء والموسيقى.
وأي ذوق بالله في العيوب التي يشكو منها بعض دعاة الإصلاح؟! أهو ذوق تلك الجماهير التي تغشى مجالس الغناء بإنصافها السفلى وحدها، فلا تستطيع أن تكبح جماح غرائزها إذا هي أحست من الصوت حركة تخنث أو همسة تأنث، فينطلق عنان حيوانيتها، وتضطرب أجسامها يمنة ويسرة في قيام وقعود وتلويح بالجوارح، ويعلو صغيرها وهذيانها استعادةً شاطة لما لا تفهم في الغناء سواه من دواعي الشبق؛ وقد تقطع بعجيجها وضجيجها أجمل الجمل الصوتية التي يتأنق بها المغني في إظهار افتنانه وقدرته، فتذهب مزايا هذه الجمل