رؤوسهم، وأخذوا يعبثون بلحاهم؛ ثم صاح القاضي ضارباً صدره بيده:(أنا قاضي مصر أصدر حكماً زوراً؟) وصاح العلماء: (ونحن! نحن يا شيخ مهدي! نحن علماء الإسلام نقضي قضاء زوراً؟)، وقال المحروقي، وقد كان يحضر مجالس الباشا لما بينهما من معاملات تجارية، (يا شيخ مهدي احترم العلماء كما يحترمونك) فصاح المفتي (يا محروقي! هل لك شيء في هذا الأمر؟ صرح بنصيبك فيه وإلا فالزم السكوت. اذهب وتحدث في مجتمعات التجار ولا تسمح لنفسك مرة أخرى أن تنبس ببنت شفة في مجلس العلماء) فترك المحروقي القصر في الحال لأنه أدرك كيف ينتهي الأمر، وأن عليه أن يرتب أموره. وطالب العلماء المفتي بالدليل على بطلان قرارهم. فسحب المفتي من صدر قفطانه كتيباً في أحكام المواريث وقرأ عليهم:(لإثبات دعوى القرابة والوراثة يجب التحقق من اسم أبي المدعي وأمه وجده لأبيه ولأمه وجدته لأبيه ولأمه) ولم يكن شهود الزور معدين لإعطاء هذا البيان فكان هذا نقصاً في الشهادة ينقض الحكم. وجئ بالبواب أمام المجلس ولما أنكر القرية التي جعلوه محورها أمر الباشا أن يجلد بشدة؛ ولكن على الرغم من التعذيب الذي احتمله، لم يعترف إلا بأنه لم يتناول من الثلاثة آلاف كيس غير ثلاثمائة قرش. وفي أثناء ذلك ذهب المحروقي إلى سيد البواب وأخبره بما حدث في القلعة وما ينتظر ووضع بين يديه ثلاثة آلاف كيس ورجاء أن يذهب حالاً إلى المجلس ويسلم هذا المبلغ قائلاً أنه كان أمانة عنده من خادمه. وقد تم ذلك وأعيدت النقود إلى ابنة المتوفى.
وفي قضية أخرى سلط فيها باشا من الباشاوات (غير محمد علي) نفوذه على القاضي ومجلس العلماء حتى أصدروا حكماً مخالفاً للشريعة فعارضهم الشيخ المهدي بالطريقة نفسها. وهذا المفتي مثل نادر في النزاهة والاستقامة. وقد قال إنه لم يتناول على فتاويه أجراً. وقد توفى هذا الشيخ بعيد زيارتي الأولى لمصر. ويمكنني أن أسرد حوادث أخرى على ذيوع الرشوة في القضاء ولكن ما قدمته يكفي.
في القاهرة خمس محاكم دنيا. وفي بولاق ميناء القاهرة الرئيسي، محكمة؛ وفي مصر العتيقة، مينائها الجنوبي، محكمة أخرى. ويرأس كل محكمة من هذه المحاكم الصغيرة شاهد من المحكمة الكبرى نائباً عن كبير القضاة الذي يصادق على تصرفاته. وتحال على هذه المحاكم القضايا المتعلقة ببيع الأموال والوصايا والزواج والطلاق. فالقاضي يزوج اليتيمات