وينتزع المعاني من مخابئها؛ بل هو يغوص عليها في مظانها يجلو بها العقد النظيم ويدفعه أنيق الصياغة، ساطع الجبين!
وقد تندفع إليه هذه المعاني عفواً، دون ما كد ذهن ولا إجهاد نفس. فالعظمة المنبسطة أمامه بسلطانها وبهائها تبعث في لبه القوة على توليد كل معنى جليل ليعادل بنسخ بيانه المشهد السامي المتعة، المحفوف بالنعمة، المتوهج في عينيه
والملك الضليل نفسه لم يبلغ مكانته الشامخة في أدب الضاد لو لم يعش في أحضان ملوك، ويستنشق في بلاط أبيه شميم العزة، ويلمس بيديه فخامة السلطان. فأقبل إلى ساحة الأدب مثقلاً بفخفخة الملوك، وكان أدبه صدى هذه الفخفخة البعيدة اللمعان المجلببة بالنعمى، اللينة الجانب، المكينة البنيان
وامرؤ القيس، الملك الضليل، في طليعة موكب الأدباء في لغة الضاد. فما لقي الأدب بيانه المنشور في سوى بدائع ذلك الفتى وقد جمحت به العاطفة فانطلقت من كبده حافلة بالقول الشهي والصوغ المحكم الأداء. وتوالت من بعده السلسلة حلقة حلقة، وكلها تنم عن طيب أصحاب الجلالة، أو من يستوي في معاقلهم من أصحاب الجاه الوسيع، والظل المأنوس؟
ومن أنطلق بالأدب المصفى المتلمس، وابن أخته طرفة بن العبد، وابن كلثوم، وابن حلزة اليشكري سوى الملك عمرو بن هند؟. . . فإن هذه القافلة من أدباء العهد الجاهلي مدينة لابن هند في الإبداع في النظم والإنشاد. وأنى لابن كلثوم أن يسمعنا معلقته التياهة:
إلا لا يجهلن أحد علينا ... فنجهل فوق جهل الجاهلينا
لولا عمرو بن هند الملك الأثيل المجد الأبلج المنتمي؟
وهذه الشعلة المتأججة في منظوم النابغة الذبياني، أين كنا نجدها لولا النعمان بن منذر، أبو قابوس؟. . . فالنابغة لم يسحب في أبياته وقوافيه ذيل الدل والإعجاب لولا هيبة السلطان وعاصمة الجليل:
فإنك كالليل الذي هو مدركي ... وإن خلت أن المنتأى عنك واسع
ومثله لبيد. فالنعمان مهد له السبيل إلى النظم والإجادة وهو في سن تقصر عن البلوغ. فطعن في حضرة صاحب السلطان على الربيع بن زيادة العبسي طعنات دامية أزاله بها عن مكانته السامقة وقد صاح بالنعمان والربيع يؤاكله: