للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

الأولى شخصية محمد عبده، والثانية شخصية محمود سامي؛ ولا أريد في هذا المقام أن أذكر ما كان بين الشيخ محمد عبده والشيخ عبد المحسن الكاظمي، فقد فصّله الشيخ مصطفى عبد الرازق باشا أجمل تفصيل في أبحاث يعرفها جمهور القراء، وأنا أبغض الحديث المعاد.

أما حديث الكاظمي عن البارودي، فهو عجب من العجب. كان البارودي على ألسنة أصحابه يتمتع بلقب (الأمير)، ويقول الكاظمي: إن البارودي كان (أميراً) في جميع شمائله الذاتية. وقد أكد الكاظمي هذا المعنى في أحاديثه معي عشرات المرات، وما كان اسم البارودي يجري على لسانه إلا ظهرت على وجهه إمارات الحزن الوجيع، وقد سألته مرة عن سر هذه الحال فقال:

كنت أسكن في حارة (قِرمز) بحي الجمالية، وكان مسكني بغرفة صغيرة فوق سطح البيت، وكان السُّلَّم مهدّم الدرجات وبدون درابزين، وكان البارودي يرى من أدب (الإمارة) أن يردَّ الزيارة لكل غريب؛ وكنت يومئذ من الغرباء، فقد كنت حديث العهد بالقدوم من العراق. وفي إحدى الزيارات تخوّف البارودي من ذلك السلم لضعف بصره، فاعتمد بيده على الحائط، فنفذ مسمار في كمه، فمزقه أشنع تمزيق، وما ذكرت ذلك الحادث إلا تألمت لما كان يعاني (الأمير) في سبيل الوفاء!

ومن هذا الخبر البسيط نعرف كيف كان البارودي في شمائله الذاتية، فإذا أضفنا إلى ذلك أنه كان مفتوناً بالمجد أعنف الفتون، وأن الأريحية المصرية كانت ملء برديه، عرفنا أنه كان بطبيعة نفسه من الأمراء بغض النظر عن مجده الموروث.

وهنا يتسع المجال لنادرة ذوقية تعد من الصور الشعرية، وهي نادرة حدثني بها الأستاذ الكبير محمود فهمي النقراشي باشا في سنة ١٩٣١، وقال:

كان البارودي يعرف مصيره بعد انهزام الجيش المصري في موقعة (التل الكبير) فاستدعى أحد أصدقائه من أعيان مديرية الغربية وأخبره أن في خزائنه كثيراً من الذخائر الذهبية، وأنه يخشى أن تصير تلك الذخائر من غنائم المنتصرين، ثم فوق بصره إلى ذلك الصديق وقال: هذه الذخائر وديعتي عندك، فإن نفاني الإنجليز ومتَّ في منفاي فهي لك مال حلال، وإن أرادت الأقدار أن أرجع إلى مصر حياً بعد النفي فالنصف لي والنصف لك.

<<  <  ج:
ص:  >  >>