وبعد سبعة عشر عاماً عاد البارودي من منفاه، وطلب نصيبه من تلك الذخائر الذهبية، فأنكرها ذلك الصديق، وأظهر استغرابه من أن تكون للبارودي عنده ودائع، وقد خرج من مصر وهو حَرِيب سليب (؟!)
واتفق أن يمرض ذلك الصديق الغادر بعد شهور قصار مرض الموت، فتجشم الشيخ محمد عبده مشقة الانتقال إليه ليفهمه أن (الدنيا لا تغني عن الآخرة) وأن من واجبه أن يردّ بعض تلك الديون ليلقى الله وهو خفيف الأوزار، فجادت نفس ذلك المحتَضر بعشرة آلاف وهو ينتظر أن يقبلها البارودي مع الحمد والثناء (؟!)
وجاء الشيخ محمد عبده إلى البارودي بصرَّة ثقيلة فيها عشرة آلاف من الجنيهات المصرية، وهو يرجو أن يكون في تلك الصرة عزاءٌ للبارودي عن بلواه بذلك العقوق
فماذا وقع؟ نظر البارودي إلى الصرة نظر الليث الشبعان إلى الثمر المعطوب، وصاح:(لن آخذ درهما من هذه الألوف، ويجب أن ترد حالاً إلى سارقها قبل أن يموت، لتكوى بها جنوبه وهو مرموس، وله الويل إن وقع بصري عليه يوم الحساب أمام الواحد الديان)
هنا تنتهي رواية النقراشي باشا، وقد بقى من الرواية فصل، فما هو ذلك الفصل؟
حدثني من عرفوا الشيخ محمد عبده أنه كان يضفي بره وعطفه على من يقرأ في حضرته بيتاً من الشعر بفهم وإدراك؛ فكيف يكون حاله وهو يشهد هذه الصورة الشعرية؟
من المؤكد أن الشيخ محمد عبده قد طرب لإيمان البارودي، وعظمة البارودي، وإباء البارودي. ومن المؤكد أن هذه الواقعة أقنعته بأن مصر لا تزال بعافية، وأنها ستكون إلى الأبد من أكرم المنابت لأحرار الرجال
أكتب هذا وأنا أذكر أن هيكل باشا قال في تقديم الديوان أن البارودي (وُلد بمصر) فبأي مكان من (مصر) وُلد هذا الفارس الشاعر؟ وفي أي مكان مات؟
في شارع (غيط العدة) بالقاهرة دار تسمى (سراي البارودي) وهي سراي عبثت بها مصلحة التنظيم ففعلت بها الأفاعيل، ولم يبق منها غير جانب هو اليوم (مخزن) لبعض المتجرين في توافه الأشياء
فإن لم يكن البارودي وُلد في تلك الدار ففيها أبت يده أن تتسلم عشرة آلاف من الجنيهات لغرض تعجز عن وصفه ألوف القصائد والأقاصيص. ومن واجب (مصلحة الآثار العربية)