أن تستبقي أطلال تلك الدار يوم تفهم أن الأدب له قدسية تفوق قدسية التاريخ
إن الفرنسيين أبقوا على منزل مضعضع الأركان بشارع سان جرمان في باريس، لأنه مولد شاعرهم (ميسَّيه)، وإلى ذلك المنزل يحج عشاق الأدب الفرنسي. فهل يعرف شبان مصر أين يقع منزل شاعرنا البارودي في القاهرة، وأين تقع دار هواه في حلوان؟
إلى الله المشتكي من ضياع الأدب في هذه البلاد، ومنه نستمدَّ العون على ما يعاني الأدب من ثرثرة أهل البغي والعقوق!
منابع الشاعرية البارودية
الشعر فيض من الشعور بحقائق الوجود، وهي حقائق يحسها الناس بمقدار، ويحسها الشاعر بقوة لا تتاح إلا لمن كان في مثل روحه المتوقد وخياله الوثاب
والذي ينظر في أشعار البارودي يجده أحس الحياة أعنف الإحساس، ويراه انطبعَ على الشعور بما فيها من شهدٍ وصاب
وأقوى باعث عند البارودي هو الفُتُوّة، فوجهه يشهد وآثاره تشهد بأنه كان من أكابر الفتيان
وفتوة البارودي فتوة أصيلة تأخذ وَقودها من القلب والروح، فهي التي أشقته بالحب، وأشقته بالمجد، وأشقته بالناس
تنظر إلى البارودي المحب فترى فتىً فاتك الصبوات في قدسية وجلال، فتفهم أن الحب شريعة وجدانية لا يتردد الفتى في اعتناقها ولو كان رئيس الوزراء. فالحب عند البارودي ليس نزوة شباب يُطلب منها المتاب، وإنما هو جذوة روحية تصل صاحبها بسرائر الوجود، وترفعه إلى أوج الخلود
هل قرأت أشعاره في الحنين إلى روضة المقياس؟
وهل تذكر أنه أول شاعر في العهد الحديث تغنى بصبوات القلوب على شواطئ النيل؟
وهل تعرف أنه صدَح بتلك الأغاني في أوقات كان فيها الغَزَل فناً لا يليق بعظماء الرجال؟
إن البارودي مجّد الفتوة المصرية بتلك الأغاريد، وجعل لمصر مكاناً في ضمير الوجود، فما تطرب الأريحية الإنسانية لأكرم ولا أشرف من التغني بأوطار الأرواح في مثل معاهد الجيزة والروضة وحلوان، وهي معاهد جهلها الشعراء، ونَدَر فيهم من يعرف وجوهها الصِّباح