ولكن دلت التجارب على أن كل تطور يعقبه تطور من جهة أخرى لا يرغب فيه الإنسان. قضى علماء الطب على معظم الأمراض القديمة، ولكن المعامل الكبرى والمدن الضخمة والسكك الحديدية وضجة الآلات والسرعة الرهيبة، كل هذه جاءت إلى البشرية المتطورة بأمراض لم يكن يعرفها إنسان الماضي، وستجيء بأمراض ولا شك لإنسان المستقبل لم نكن نعرفها نحن جزاء تطوره هذا.
وقد جاءت الاختراعات والثورة المادية بعوائد اجتماعية زلزلت بنيان البيت القديم وقوضت دعائم قدسيَّاته الاجتماعية وقواعده الأخلاقية التي كان يستعز بها. وجاءت بعادات جديدة فرضتها عليه فرضاً، ووسع هذا التطور مجال الحروب فجعلها عالمية وقد كانت موضعية، وجعلها آلية تكلف الإنسان ثمناً باهظاً تبتلع معظم ميزانية الدولة فلا تنتهي الحرب حتى يدخل في حرب أخرى جديدة أعم من تلك وأعظم
لذلك تشاءم بعض الفلاسفة من هذا التطور فأعلنوا ثورتهم على التطور الحديث والمدنية الحديثة فاعتزل الفيلسوف الشهير شيخ المتشائمين المحدثين شوبنهور هذا الكون ومن فيه متمثلاً بآراء فلاسفة الهنود ساخراً من كل شيء إلا من كلبه الأمين الذي أطلق عليه كل العالم ليعبر بذلك عن مقدار استخفافه بهذا العالم
وتبرم فيلسوف آخر هو الفيلسوف المتشائم شبنكلر من الحضارة الحديثة ومن الثقافة المادية التي صبغت كل شيء حتى المثل الأخلاقية بالصبغة المادية، وهدد بناء أوربا بسقوط عاجل مريع في إنجيله الفلسفي الجديد (سقوط الغرب) وقد أبان فيه أن الإنسان قد تطور تطوراً سريعاً جداً
أما من حيث الناحية الروحية فقد سارت البشرية فيها ولا شك بخطوات سريعة أيضاً ولكن إلى الوراء، ونادى الفيلسوف الدانماركي كيركه كارد ? أبناء قومه بعبارة تنم عن نفسية أوربا الحديثة:(هيا إلى الدين)