الحضارة الحديثة والتي ستليها. كان التطور في الزمان السابق قد اقتصر على طبقة معينة من الناس وهي الطبقات العليا، أعني رجال القصر وحاشية الحكومة ورجال اللاهوت. أما الطبقات الدنيا فكانت في مستوى فكري روحي منحط. لذلك لم تكن حلقات الأمة محكمة، ولم يكن المستوى العقلي فيها متشابهاً أو واحداً. لذلك كانت خواص الأمة العقلية وخواصها الفسيولوجية منحطة واطئة، لأنها لم تكن متطورة، فلما أخذت الطبقات الدنيا تشارك الطبقات العليل في التعليم وتشاركها في وظائفها العليا وحقوقها المكتسبة أدركت الأمراض التي كانت تحيط بها والأخطار التي كانت تتهددها، فاحترست منها وأخذت تقاومها مقاومة رجل عالم خبير فقوّت عقلها وقوّت جسمها في وقت واحد. ولذلك خفّ ضغط الشعوب المتوحشة على الشعوب المتمدنة، ثم زال عنها بالتدريج. كان أهم مميزات حضارة الإنسان الأول هو ضعف تلك الحضارة من حيث ناحية الدفاع تجاه الأمم المتوحشة إذ كانت القوة للعضلات وكثرة العدد. فلما تطور الإنسان وظهرت حضارة القوة انعكست الآية وأصبحت الشعوب المتوحشة فريسة الأمم المتمدنة القوية، وأصبحت الأمم المتمدنة هي التي تملي إرادتها على الشعوب المتوحشة وتكيفها كيف تشاء؛ لأن القوة لم تعد قوة العضلات ولا قوة الجسارة والطيش، إنما هي قوة التكيف والتطور والابتكار والمهارة. وأصبحت الأمم المتمدنة لا تفلها إلا الأمم المتمدنة. والأمم المتمدنة هي الأمم التي تصمد أكثر من غيرها تجاه مطرقة الأعداء في أية ناحية من نواحي الحياة
حقق التطور البشري كثيراً من أحلام البشرية وفك بعض طلاسم الكون والوجود، ولكن هل يستمر هذا التطور في سيره السريع هذا؟ وهل يأتي يوم تحقق فيه البشرية كل ما كانت تحلم به أو تصبو إليه، فتتكون على الأرض البشريةُ المثلى وينعم الإنسان في هذه الجنة الأرضية بالخلود والنعيم؟ آمن بعض ذوي الخيال الواسع من العلماء بهذه الفكرة الجميلة فحاولوا قديماً وحديثاً استغلال العلم واستعباد العقل للعثور على سر الحياة واكتشاف لغز الموت لمقاومته، واقتنع آخرون بنظرية إطالة عمر الإنسان مدة تزيد على مدة العمر الطبيعي. وأبى آخرون إلا أن يهتدوا إلى سر الكون، وإلا أن يتوصلوا إلى إدراك كنه ما نسميه بالطبيعة، وأن يجدوا لهم سبيلاً إلى الشمس والنجوم أو طرقاً للمحادثة مع سكان الأجرام العلوية على الأقل.