أرجح أن كل هذا معروف لديك وتوافقني عليه، ولكن قد يزيد عجبك إذا علمت أن إشارة (الصفر) هي التي أوجدت أكثر التسهيلات التي تراها في الترقيم، وهي التي أعطت بعض الخصائص الممتازة للأرقام. لقد ظهر لك المقام العالي الذي يشغله (الصفر) في البحوث الرياضية، وأنه عامل مهم في ترقيتها وفي تسهيل الصعب منها، ولا نكون مبالغين إذا قلنا إنه لولا الصفر لما تقدم العلماء تقدمهم الغريب في العلوم الرياضية. وهنا قد يحلو للبعض أن يتساءل ويقول: قد يكون للصفر هذا المقام في الرياضيات، وقد يكون له هذا الأثر الكبير في ارتقائها؛ ولكن ما علاقة ذلك بالمدنية؟ وهل المدنية تقوم على الرياضيات؟!
وجواباً على هذا السؤال، ليسمح لنا القارئ أن نعطي الجواب أولاً فنقول: نعم، إن المدنية في أساسها وجوهرها ترتكز على العلوم الرياضية.
إن كل فرع من فروع المعرفة يتقدم ويتناوله التغيير والتبديل، وكلما اقترب من الأرقام زاد دقة في التعبير ونحا نحو الكمال ونحو الذروة في الحقيقة. قال كانت (يكون العلم دقيقاً إذا استعمل العلوم الرياضية في بحوثه) ولم يستطع العلماء أن يستفيدوا من بحوث الضوء ومن انكسار النور إلا بعد أن أفرغوا قوانين الانكسار في قالب رياضيّ، وبذلك استطاعوا أن يستعينوا بالمعادلات والأرقام في العدسات التي تستعمل لإصلاح عيوب العين
إن علمي الفلك والفيزياء وصلا إلى درجة كبيرة من الدقة والكمال، وما ذلك إلا بفضل الأرقام والمعادلات. جرد هذين العلمين من رياضيتهما بل جرد الكيمياء الحديثة من معادلاتها وقوانينها وحينئذ لا يبقى إلا تعريفات ومبادئ لا يمكنك بحال من الأحوال أن تستفيد منها أو أن تطبقها فيما يعود على البشرية بالنفع والخير. ولن يستطيع العالم مهما كان قوي العقل خصب الفكر أن يقف على أسرار الطبيعة والكون. ولن يستطيع الغوص في بحارهما ليقف على كنوزهما وعجائبهما إلا إذا ألمَّ بالرياضيات وكانت عنده خبرة بها، وأن الكيمياء الحديثة لفي حاجة إلى الرياضيات حاجتها إلى التجربة والاختبار، وناهيك بالكيمياء فهي الأساس الذي شيد عليه صرح الصناعة في هذا القرن وجعلها تزدهر هذا الازدهار العجيب. إن هذا العصر لهو عصر الهندسة وعصر الآلة، وكل هذه في حاجة إلى الرياضيات ولا يمكن الاستفادة منها أو تطبيقها على مقتضيات العمران إلا بذلك. قال البروفسور فوس (إن مدنيتنا التي ترتكز على الاستفادة من الطبيعة والسيطرة على