وفي الجزء الثاني نراه على عهده الأول، نراه يحترم العمائم ثم ننظر في الصفحات الأخيرة فنراه يعلن أنه (ظفر بشيء طالما تمناه، وهو أن يتصل ببيئة الطرابيش)
فما سر هذا الانتقال؟
كان يعرف أن أمور الدولة إلى أصحاب الطرابيش، ولعله سمع أن ناساً اقترحوا على الشيخ محمد عبده أن يلبس الملابس الأفرنجية ليمكن أن يصير من الوزراء، كما صار الشيخ سعد زغلول بعد ذلك من الوزراء
وقد صبر الدكتور طه على عمامته بعد فراق الأزهر بأعوام قصار أو طوال، فأدى امتحان الدكتوراه بالجامعة المصرية في سنة ١٩١٤ وهو معمم، وأقلته الباخرة من الاسكندرية إلى مارسيليا وهو معمم، ولكن ركاب تلك الباخرة قد التفتوا مندهشين إلى شيء يقع في البحر وقد ألقاه صاحبه بعنف، فما ذلك الشيء؟ هو عمامة طه حسين!!!
وقد تحدث الدكتور طه مع أحد الصحفيين بأنه لم يندم على شيء كما ندم على رمي عمامته في عرض المحيط؛ ولكن الواقع غير ذلك، الوقع أن الدكتور طه وُلد وعلى رأسه (برنيطة) وقد حدثني مرة أنه يرجح أن أسلافه القدماء كانوا من اليونان، فإن لم يصح ذلك فهو في نزعته اليونانية مَدين لرواية ألفها الشاعر أحمد شوقي واسمها (ورقة الآس) وفيها تمجيد لليونان.
ولهذا وذاك صلة بانتقال الرجل من حال إلى أحوال، فقد انحدر من أسرة أكثرها مشايخ، ولكنه مع ذلك يحيا حياة مدنية منقطعة عن حياة المشايخ تمام الانقطاع. والنص على هذا الانقلاب واجب، لأنه يفسر ما خفي من أسرار الوحي في اتجاهاته الأدبية والاجتماعية
ولكن هذا الشيخ اليوناني بقيت فيه ملامح من ذلك الشيخ الأزهري، فما شاع يوماً أنه يدعوا إلى اللغة العامية، كما يصنع بعض المتظرفين الثقلاء، ولا جاز عنده أن تكون العقيدة الإسلامية مجالاً للتشكيك والإيذاء، وإن وقعت في بعض مؤلفاته عبارات تغاير المألوف من التعابير الدينية.
هذا رجل بعيد الصلة بين حاضره وماضيه، لأنه سريع القفز والوثب، ولأنه على وفاق مع ضميره الفني والأدبي، فهو يسايره إلى حيث يريد. وكل شيء عنده جائز، إلا العدوان على اللغة العربية، أو التحرش بالعقيدة الإسلامية، فهما عنده في مقام القدسية والجلال!