وفي كتاب الأيام سطور تفصح عن أسباب القلق في حياة الدكتور طه حسين، فهو يجزع من العزلة ويفزع من الانفراد، لأن الاتصال بالناس هو أداته في الاتصال بالحياة الخارجية، ومن هنا نجده حريصاً أشد الحرص على أن يكون لاتصاله بالناس ضروب من الضجيج والعجيج، لينجو من متاعب العزلة والانفراد، وهذا هو السر في انتقاله من رأي إلى رأي، ومن حزب إلى حزب، ومن ميدان إلى ميدان!
كان مع الدستوريين وهم يقاتلون الوفديين، وكان مع الوفديين وهم يقاتلون الأحزاب أجمعين، فإذا انجلت المعارك السياسية وانقطع إلى الحياة العلمية كان من الواجب أن يخلق أزمة جامعية، فاذا نُقل من الجامعة إلى وزارة المعارف كان من الحتم أن يخلق مشكلة في وزارة المعارف
ومع أن للدكتور طه عذراً في التخلف عن شهود بعض المآتم وحضور بعض الحفلات، فهو يشهد جميع المآتم ويحضر جميع الحفلات، ليطرد عن نفسه عناء العزلة والانفراد
فالذي ينظر إلى الأمور نظرة سطحية يحكم بأن الدكتور طه رجل متغير متحول، أما الذي ينظر نظر المدقق فيرى التغير والتحول من صور الثبات والاستقرار بالنسبة إليه، لأنهما يؤديان وظيفة أساسية في حياته اليومية!
ومن الجائز أن يكون لهذه النزعة دخل في هيامه بالفروض والحدوس وهو يساور الأبحاث الأدبية والتاريخية، فؤلفاته في أغلب أحوالها قليلة التعمق، لأن التعمق يوجب أن يقف عند البحث الواحد عاماً أو عامين، والوقوف يضايقه بعض الشيء، لأنه يصرفه عن التحول والانتقال بين المعاني والآراء!
زار الدكتور طه باريس وأنا هنالك، فلما مضيت للتسليم عليه أدهشني أن أجده في غرفة تطل في غرفة تطل على ميدان (الأوْبِسرفتوار) وهو ميدان صخاب ضجاج؛ فقدرت أنه يريد أن (يسمع) باريس بعد أن فاته أن (يرى) باريس!
ويحدثنا الدكتور طه في (الأيام) أنه كان يأنس أنساً شديداً بمراسلة إخوانه وهو في الريف، وتفسير ذلك سهل، فهو يلقي بالرسائل من يشاء من الإخوان.
ويحدثنا أنه حين رجع إلى بلده بعد قضاء بضعة أشهر في الأزهر أقام معركة حول فكرة التوسل بالأولياء، فما سر ذلك؟ لم يرد في الواقع غير خلق دنيا يراها عقله، وإن لم ترها