للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

محدود

والعجب كل العجب أن يستطيع الرجل الكهل وصف حياته وهو طفل بتلك الدقة العديمة المثال

تكلم طه حسين عن حياته الأولى في الأزهر بعد أن فارقها بنحو أربعين سنة، فكيف اختزن تلك الذكريات في أمد كاد يزيد على أربعة عقود؟

الشيخ طه هو الذي كتب (الأيام) لا الدكتور طه، فهي صور فطرية لأحلام طفل كانت دنياه محصورة بين حي الأزهر وحي الجمالية، ولا يكاد قارئ هذه المذكرات يصدق أن كاتبها تخرج في السوربون وإن كانت السوربون هي السبب في أن يجيد مثل هذا القصص الطريف

جمال هذه المذكرات يرجع في جملته وتفصيله إلى ما انطوت عليه من الصدق. والكاتب يقول إنه ضرير، ولو سكت عن هذه الناحية لأفصحت عنها الشواهد؛ فهو لا يحدد أي مكان إلا بالنص على أنه من عن يمين أو عن شمال؛ وهو يصور المعقولات بصور المحسوسات، لتكون مما يلمس أو يذاق، فهذه ضحكة غليظة، وذاك ابتسام سخيف؛ وهو لا يذكر من عذوبة الشاي إلا أنه كان يوضع فوق ماء له أزيز عند اشتداد الغليان؛ وهو لا يقول إنه كان يتسمع أحاديث الجيران وإنما يقول إنه كان يمد أذنيه مداً ليسمع أو ليلمس تلك الأحاديث؛ وهو لا يقول إن أخاه كان يتركه إلى أن يعود، وإنما يقول إن أخاه كان يلقيه كما يلقي المتاع؛ وهو لا يقول إن الليل يستر الأشياء والأحياء وإنما يقول إن الليل: (يمس بيده المظلمة العريضة هذه الأشياء وهؤلاء الأحياء) ويؤيد هذه اللفتة قوله في وصف بعض الأشخاص:

(كان ضحكه غريباً مضحكاً حقاً، فقد كان يبدأه عالياً ثم يقطعه، ويضحك صامتاً لحظة ثم يستأنفه عالياً، ثم يقطعه، ويمضي فيه صامتاً، ثم يستأنفه، وهكذا)

وهذه صورة لا تتفق من يعتمد على السمع في وصف بعض الأشياء.

وهنالك صورة ثانية تؤيد هذه اللفتة، وهي قوله بأنه (كان يجد للظلمة صوتاً يبلغ أذنيه، صوتاً متصلاً يُشبه طنين البعوض لولا أنه غليظ ممتلئ)، ولهذه اللفتة أمثال وأمثال، كأن يسجل بنفسه أنه كان مفتوناً بعد درجات السلالم، وكأن يقول إنه كان يطرب لأصوات

<<  <  ج:
ص:  >  >>