وإن أدراك الحق ورسمه على الصحف أمر سهل جداً على النفوس، ولكن العمل على تحقيقه وتجسيمه بين الناس متمثلاً في أشخاص وأعمال مهمة شاقة، لا يحتملها إلا أُلو العزم من محبي الإصلاح
هناك جانب خفي للفقيد في مؤازرة هذه الجمعية شاء هو أن يخفيه عمداً، هو جانب بذله المال حسب طاقته في بعض حاجات هذه الجمعية وحاجات غيرها من وجوه البر. فقد كان لا يبخل بمال، ولا يحسب حساب ذريته الخاصة في سبيل تحقيق مصلحة عامة؛ وقد طال عمره وهو كبير الراتب، ولكنه لم يتهالك على جمع شيء من الحطام الفاني، ولم يخرج من الدنيا إلا عن ميراث الحكماء والأصفياء. . .
إذا ورث الجهال أبنائهم غنى ... ومالاً فما أشقى بني الحكماء!
ألا سلامٌ على تلك الشيخوخة الجليلة السمحة المتفائلة التي كانت تضحي بما يصحب تقدم السن من الترفع والاعتزال، وتمتزج بروح الشباب لتعطيهم خبرتها وتجاربها. . .
وسلامٌ على تلك الروح الرحبة اللطيفة الوديعة التي كانت كأنها لا تعرف الغضب والمساءات. . . وعلى ذلك القلب البرئ كقلوب الأطفال الأبرار، وعلى تلك الأسارير المنبسطة التي يترقرق فيها الطهر وخلوص الطوية، وعلى ذلك المنطق العفيف عن الادعاء والغيبة وتجريح الناس ومقابلة السوء بالسوء. . .
وسلام على تلك الجبهة العالية التي كرمت صفحتها عن سمات الذلة والخضوع لغير الحق. . . وعلى تلك الذاكرة الواعية التي ما كان يفر منها رقم أو مسألة من مسائل العلم والدين التي اطلعت عليها، وما كان أكثرها!
ألا إن فقيدنا لم يكن شخصاً، وإنما كان حديقة مزهرة مثمرة بأطايب المعاني العالية، ورقائق الصفات الكريمة، ووثائق الأخبار والأسمار والمعلومات. . .
فرحمة الله له، والخلود لذكراه، والصبر الجميل لذويه وتلاميذه ومحبيه