بأسلوب يشبه بعض الشبه أسلوب أفلاطون؛ فأنطق ثلاثة عشر خطيباً بأقوال تلخص ما كان يعتلج في ضمير المجتمع البريطاني عند تأليف الكتاب، وبهذا صح له أن يسميه (معرض الآراء الحديثة) وهي آراء جماعة بعضهم من المحافظين، وبعضهم من الأحرار، وبعضهم من الاشتراكيين، وبعضهم من الفوضويين وفيهم الأستاذ والصحفي والشاعر والأديب ورجل الأعمال
والمؤلف يصور هذه الجماعة وقد اجتمعت في داره بالريف في ليلة من ليالي يونيه، وقد حملها القيظ على أن تسمر فوق السطح كما يصنع الناس في بغداد، وفي تلك السهرة تحدثت الجماعة بلا تحفظ ولا احتراس، فقال كل خطيب ما قال وهو في أمان، بدون أن يخطر في البال أن كلامه سيدون في كتاب خاص
ويمعن المؤلف في توكيد هذا الخيال الطريف؛ فيشرح كيف كانت الأحوال النفسية لأولئك الخطباء، وكيف كانوا يتبرمون بالجدل من حين إلى حين، كأن يقول على لسان أحد المجادلين:(لقد خلت الحلبة واختفت المقاعد الصامتة في جوف الليل وبدت في ضوء القمر الضعيف أشباح روحانية ترفرف على مشاهد خلافاتنا العارضة، وهذه الأشباح هي التي تقف من خلفنا وتسدد الضربات التي يلوح أنها تصدر عنا، فإذا ما انقضت آجالنا استنفرت هذه الأشباح خلقاً غيرنا للقتال والنزاع، وإذا سحب النسيان ذيله على أسمائنا أحيطت أسماء غيرها بهالات من المجد الفاني. فعلام إذن نقضي الليل كله حتى مطلع الفجر في كدح وضجيج؟ إن سماء واحدة تضلنا، ونجوماً بعينيها تطلع وتغرب علينا، وليست آراء رمنهام إلا زبداً يذهب جفاء، وإن التيار ليجرف الجميع على سواء نحو القدر المحتوم، فلنتقابل ولو فترة قصيرة أمام قوته الصامتة الجارفة، ولنمد أيدينا لنتصافح في هذه اللحظة من وراء المنضدة).
فهذه لفتة أديب متوجع من إيغال أهل الفكر والرأي في الخصومة والعِداء، ولهذه اللفتة نظائر لا تخفى على القارئّ وهي تشهد بروحانية هذا الأديب
وأرجع فأقول إنه يجب على الطالب أن يذكر أن المؤلف يجسم بعض الآراء عامداً متعمداً، ليصح له أن يناقشها بعد ذلك بقوة أو بضعف، ليصور اتجاه الآراء في بلاده أو ليصور اتجاهه الخاص، وإن كان السياق يشهد بأنه نزه نفسه عن التحيز لهذا الرأي أو ذاك.