ونظرة المؤلف في هذا الموضوع نظرة إصلاحية، وهي تشهد بأن الإنجليز يعانون بعض ما نعاني من كثرة الكلام عن متاعب أهل الريف، وهو كلام يضّر أكثر مما يفيد، لأنه يزعزع طمأنينة الريفين، ويحرمهم الاستمتاع بما في الحياة الريفية من خيرات وثمرات.
ولكن للمؤلف من وراء هذا الكلام غاية فلسفية تمثلها دعوته الصريحة إلى الترحيب بالوجود في جميع مناحيه، ومن رأيه أن (الحياة نفسها هي المتعة، وهذه المتعة دائمة في جميع العصور ولجميع الطبقات). ثم يندفع فيقرر أن (المثُل العليا لا وجود لها في الحقيقة) وهو بهذا يريد أن الحرمان من النعيم الموجود لا يعوَّض بالنعيم المنشود؛ ثم يقفز إلى أعلى أبراج الفلسفة الشعرية فيهتف (إني حين أغادر اجتماعاً أو أفرغ من قراءة مقال مروّع عن الإصلاح الاجتماعي أشعر كأن من واجبي أن أعانق كل شيء وكل شخص أقابله لمجرد أنه أحسن إلى العالم بوجوده فيه، أرى كأن من واجبي أن أعانق سائقي السيارات العامة والمركبات وأصحاب الحوانيت والأكواخ القذرة ومن فيها من الضحايا واللصوص. إن هؤلاء جميعاً في الوسط الذي يعيشون فيه يطفون فوق نهر الحياة العظيم الذي كان وجوده في الماضي والحاضر - وسيكون وجوده في المستقبل - مبرراً كافياً لوجوده مهما كان البلد الذي يجري فيه).
وهذه لفتة شعرية على جانب من الصحة والقوة، فإن التشكي الكثير من نظام الوجود ليس من علائم العافية، إلا حين يراد به خلق نظام جديد ميسور، لا تخيُّل نظام لا وجود له إلا في أذهان المتكلفين.
وثبة جديدة
ولكن المؤلف يثب بعد ذلك وثبة جديدة بلسان خطيب آخر فيقرر أن الإنسان في طور التكوين، وأن واجبه منذ هذه اللحظة أن يكوّن نفسه بنفسه، فقد سارت به الطبيعة إلى الحد الذي وصلت به إليه، فوهبته أعضاء جسمه وعقله ومبادئ روحه، وأصبح في استطاعته أن يكمل هذا الهيكل البديع أو يفسده إذا شاء.
فماذا يريد المؤلف أن يقول؟
يريد أن يجعل عبء الكمال فوق كاهل الإنسان لا كاهل الطبيعة (لآن الطبيعة لا تريد أن