والذي يقرأ كتاب (معرض الآراء الحديثة) بدون إدراك هذا المعنى لن يكون له من فهمه غير أشباح وأطياف!
الريف، الريف
في الكتاب كلامٌ كثير عن الريف وسادة الريف، ومن ذلك الكلام ندرك أن الأمة الإنجليزية ترى الريف ملجأها الأمين، وقد تراه الأصل في مجدها الأثيل. وشعور الإنجليز بأهمية الريف يُخلق في كتّابهم ومصلحيهم فكرة العناية الموصولة بتجميل الريف والتألم لما يقع فيه من فقر أو عناء!؟
وهنا يلتفت المؤلف إلى سوء العاقبة، عاقبة الإسراف في تجسيم شقاء الريف بلسان أحد الخطباء:
(لقد كنت أقرأ في أحد الأيام مقالاً من تلك المقالات المروّعة عن حال الزراع، ثم ذهبت بعد ذلك راكباً إلى الريف فتبين لي أنه لم يبلغ من السوء الحد الذي وصفه به الكاتب، ولا أعني بذلك أن حال الريف كلها كانت مما يسرّ له الإنسان، ولكنه رغم هذا كان مدهشاً حقاً؛ فقد رأيت خيلاً ضخمة يتدلى من جباهها شعرٌ أشعث، ترعى في المروج الخضراء، ورأيت ماشية تخوض في الماء الضحل، وجداول تحف بشطانها أشجار الصفصاف، وعصافير تزقزق، وقنابر وطيوراً أخرى مغرّدة. ورأيت بساتين الفاكهة ترتدي حلة من الزهر الأبيض النضر، وحدائق صغيرة اهتز ورقها وربا في ضوء الشمس الساطع وظلال السحب المارة فوق السهول، ورأيت الزارع الذي أفاضوا في وصف حاله وسط هذا كله، فلم أره بمظهر البؤس المجّسم كما يقولون، بل رأيته يفكر رأيته يفكر في خيله أو في عيشه وجبنه، أو في أطفاله يَحْبُون في الطريق، أو في خنازيره وديكته ودجاجه. ولست أظن بالطبع أنه يدرك ما في هذه الأشياء كلها من جمال، ولكنني واثق من أنه كان يشعر شعوراً مريحاً بأنه جزء من هذا كله، وأن حاله طيبة، ولم يكن قلقاً من حاله كما تقلقون من حاله. ولست أعني من هذا أن لا حق لكم في القلق، ولكني أعتقد من واجبكم أن لا تظنوا العالم كله شراً لا يطاق لمجرد أنكم تستطعيون أن تصوروا عالماً خيراً منه).