علينا أمره ويصعب علينا احتماله. وعلى ضوء هذه الاعتبارات جميعاً كانت أولى النتائج التي انتهيت إليها من دراسة قيمة الحرية. إن من صواب الرأي أن نعلم أن الاستبداد بالرأي هو الشيء الوحيد الذي يلزمنا ألا نتسامح فيه إذا أردنا أن نظل أحراراً. لذلك كان لزاماً علينا مثلاً أن نتسامح في أمر الصحف الرديئة لنظل أحراراً في أن نحتفظ بصحافة طيبة، وهذه النتيجة تعود بي إلى قضية النسبية. فالأصل في التسامح أن يثير الموازنة بين الحرية المطلقة والحرية المقيدة، وهذه الموازنة تنتهي بنا لأن ندرك أن جميع الحقائق نسبية، وأنه لا توجد حقيقة واحدة مطلقة سياسية كانت أو اجتماعية. وأن ندرك أيضاً أن الأمر لا يقتصر هنا على وجوب التسامح في الآراء والعقائد، بل يتجاوزهما إلى التسليم بالحق في النقد والاعتراف بحرية النقد، تلك الحرية التي أصبحت الآن عماد حرية الفرد ومصدر ما يصيبه من نجاح في الثقافة أو العمل، إذ تحمل في ثناياها المميزات الأساسية للجماعة الحرة، تلك المميزات التي يفصح عنها ما ينطبع في الشعب من سجية التسامح في الآراء التي قد لا يسلم بصحتها الكثير من أفراده، ولا تروق في أعين غالبيتهم. وإذا ما تسامح الناس في تقبل الآراء في الوقت الذي لا ينعقد لهم إجماع على صحتها، وإذا ما تأبوا على أنفسهم أن يبطشوا بها أو يضيقوا بها ذرعاً، وإذا ما حرصوا أن يكون سبيلهم في مناهضتها عن طريق المحاجة والإقناع، فإنهم على هذا النهج القديم يعترفون بحقيقة ما بين العقول البشرية من خلاف نزيه في النظر والتقدير. وأنه لأشد رعاية لحرمة الرأي البشري أن تمتحن المذاهب المختلفة عن طريق مقارنة الحجة بالحجة، ومقارعة الرأي بالرأي لا أن يفرض على الناس واحد من هذه الآراء أو تلك تحت سلطان القوة التهديد. والحرية السياسية لا تتفق مع تلك الحال التي يفرض فيها على الأمة رأي واحد، ويكون لزاماً عليها أن تتشابه فيها العقليات ويوحد النظر. بل هي على النقيض من ذلك تنهض على ما يجب أن ينعقد إجماع الشعب عليه من إباحة الاختلاف في الرأي، كما تنهض على أن يعترف الجميع اعترافاً إيجابياً عملياً بأن اختلاف الآراء في الهيئة الاجتماعية يجعل حياتها أخصب تربة وأكثر إنتاجاً مما يتيسر لها لو سارت على نهج واحد مناطراد المذهب ووحدة النظر. والجماعة إنما ينعم بحريتها على وجهها الصحيح متى كانت عادتها وقوانينها في الوضع الذي يفسح المجال لرأي الفرد ويهيئ الميدان لتصرفاته الشخصية، فلا تضيق الخناق على