كرواج قصائد الفرسان، لأن حلقات الأذكار وما يشبهها أشيع في الأندية والمجالس التي تنشد فيها سير الأبطال بلغة الفصحاء أو بلغة العوام.
ومن ذكرياتي في هذا الصدد أنني نظمت الشعر في الأغراض الدينية كما نظمته في المناجزة والدعوة إلى القتال.
فقد أسلفت بمقالي السابق أنني أوشكت أن أسلك طريق (الدروشة) وأنقطع عن الدنيا ومساعيها. وكنت خلال ذلك أسمع الأذان من مؤذن المسجد المقارب لبيتنا وهو منشد مشهور بجمال صوته وحسن إلقائه، فكان شجوني أن أسمع مقدمات الأذان قبل صلاة الجمعة وهي الأناشيد الثلاث التي كانوا يسمونها حسب ترتيبها بالأولى والثانية والثالثة، وكلها من الشعر المنظوم في التصوف أو مدح النبي عليه السلام.
وكان مسموحاً للناشئين أن ينشدوا هذه القصائد مع المؤذن أو على انفراد، بل كان إنشاد الناشئين مفضلاً مستحباً لأنهم أقرب إلى صفاء النفس وطهارة العبادة.
فاستأذنت في إلقاء إحدى هذه القصائد مرات، واخترت في بداية الأمر شعراً من دواوين البرعي وأمثاله. ثم تجرأت على نظم قصيدة طويلة أحكي بها شعر المديح النبوي، وأنشدتها دون أن أخبر أحداً بأنني ناظمها، وخفت أن يسكثروها عليَّ بعد ظهور الحقيقة فختمها ببيت لا أذكر منه إلا الشطرة الأخيرة وهي:(عباس من هو بالأشعار مدرار)
وإنما أذكرها لأنها هي الشطرة الوحيدة التي انتقدها أبي رحمه الله حين أطلعته على الحقيقة. فتبينت الفرح في أسارير وجهه والتشجيع في صريح كلامه، ولكنه قال لي برفق: ما ينبغي أن تثني على نفسك هذا الثناء وأنت ترى كيف يختم الأئمة المادحون قصائدهم بالتذليل والتوسل وتصغير ما قالوه وأسلفوه من الصلوات والعبادات.
فهذه علاقة بين التدين ونظم الشعر كالعلاقة بين نظم الشعر والحماسة العسكرية، ولكنها كما قدمت علاقة سطحية توجد بين الأدب وبين كل موضوع ينظم فيه الشعراء. ففي وسعك على هذا القياس أن تقول مثلاً إن الهندسة (الميكانيكية) قريبة من الشعر لأن بعض الشعراء ينظمون في وصف الطيارة، وأن تقول كذلك إن علم الحيوان قريب من الشعر لأن بعض الشعراء ينظمون في وصف الخيل أو وصف العصافير.
إلا أنها علاقة سطحية لا يرجع إليها في استكناه أسرار الشخصية الإنسانية وروابط