اصنع؟ نهضت وأبديت لمن يراني إنني ضال بين القبور، فسرت وأمعنت في السير، ولكن ما أضأل مدينة الموتى إزاء غيرها من مدن أهل الحياة، والموتى ينيف عددهم على عدد الأحياء.
يتخذ القصور الشامخة والدور الباسقة والسبل الفسيحة أبناء النور، وشاربو الينابيع، وراشفو ابنة الأعناب، وآكلو سنابل الحقول، أما الموتى الذين تحدروا إلى أعماق الثرى وما زالوا ينحدرون. أولئك لا ينالون شيئا. . . رقعة من الثرى تضمهم والنسيان يطوي أسماءهم ووداعاً.
في زاوية من زوايا المقبرة الآهلة بسكانها وقع ناضري على المقبرة العتيقة التي اختلط رفات أصحابها بالتراب، واتى على صلبانهم الهلاك. وغداً سيبدل الأحياء بالنازلين القدماء، نازلين محدثين.
كان يغشى تلك المقبرة ورود منتشرة، وأوراق سوداء، كأنها حديقة كئيبة سامخة تغذيها لحوم الموتى.
آويت إلى جذع شجرة تواريت به عن الناس. ولبثت مرتقبا قابضاً على الجذع كما يقبض الغريق على بقية من بقايا زورقه المحطم حتى مد الظلام رواقه، فغادرت مكاني وطفقت أطوف متمهلا بين اللحود
ضللت كثيراً وأنا أتلمس قبرها. فكنت أسرى باسطاً يدي. وفاتحاً عيني، وواثباً بين القبور على غير هدى، فكم قبور لمحت، وكم رسوم وقفت عليها كأعمى يود أن يهتدي إلى سبيله فلمست حجارة وصلباناً. وأكاليل ذوت ازاهيرها، واكاليل من زجاج. وتلوت أسماء كثيرة بيدي ولكنني لم أجدها.
لا قمر في السماء يزيح هذه الظلمة الداجية.! وياله من ليل بعث في نفسي الهول. أغشى الطريق تغمر جانبيها القبور. القبور عن يميني والقبور عن شمالي. والقبور أمامي وورائي. أعياني السير فاستويت على ضريح فسمعت خفقان قلبي وسمعت شيئا غير خفقانه.
ماذا اسمع؟ أهذه وساوس تعيث في رأسي؟! وهذه أسماء تتصاعد من الأرض الطافحة بأشلاء بني الإنسان؟