للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

وكان يومئذ يجرب قول الشعر، فأشار على أن أنشره فاستكبرت ذلك، فما فتئ يزينه لي حتى لنت له. وغدوت علة (إدارة) المقتبس وكانت في شارع السنجقدار العظيم الذي صار خرائب وأطلالاً. فسلمت على أبي بسام الأستاذ أحمد كرد علي رحمه الله ورحم جريدته. . . ودفعت إليه المقال، ولم يكن من إخواننا من يعرف طريق صحيفة أو يجرؤ على النشر فيها. وكنا يومئذ متلبسين بجريمة الحياء التي أقلع عنها شباب اليوم والحمد لله الذي لا يحمد على المكروه سواه. فنظر في المقال فرأى كلاماً مكتهلاً ناضجاً، ونظر في وجهي فرأى فتى فطيراً، فعجب أن يكون ذاك من هذا، وكأنه لم يصدقه فاحتال علي حتى امتحنني بشيء أكتبه له زعم أن المطبعة تحتاج إليه فليس يصح تأخيره، فأنشأته له من يسابق قلمه فكره، فازداد عجبه مني ووعدني بنشر المقال غداة الغد، فخرجت من حضرته وأنا أتلمس جانبي أنظر هل نبتت لي أجنحة أطير بها لفرط ما أستخفي السرور. ولو أني بويعت بإمارة المؤمنين ما فرحت أكثر من فرحي بهذا الوعد. وسرت بين الناس وكأني أمشي فوق رؤوسهم تعالياً وزهوراً. وما احسبني نمت تلك الليلة ساعة، بل لبثت أنقلب على الفراش أتصور أي جنة من جنات عدن سوف أدخل في غداة الغد. . . أي كنز سأجد. وجعلت أترقب الصباح ولا ترقب عاشق متيم ينتظر وصلاً بعد طول الهجران، حتى إذا أنبثق الصبح وأضحى النهار، أخذت الجريدة، فإذا فيها المقال وبين يديه كلمة ثناء لو قيلت كلمة ثناء لو قلت للجاحظ لرآها كبيرة عليه. . .

وعدت أنظر إلى الجريدة القديمة الصفراء وهي مائلة بين أوراقي، وأفكر في هذا الأدب ماذا جنى علي وماذا جنيت منه. لقد سرت بعد تلك المقالة أعدو في طريق النشر. فكتبت في جرائد الشام ووفدت على خالي الأستاذ محب الدين الخطيب في مصر، فأخذ بيدي وسدد خطواتي، وكان لي أفضل مرشد ومعين، وأفدت من خلقه ومن علمه ومن ماله، ثم عدت إلى دمشق، ثم اتصلت بالرسالة صديقة روحي وسميرة وحدتي، وكانت لي خير مدرسة، فيها الأستاذ الزيات خير مدرس. وكنت إذا نظرت في كتاب، أو أصغيت إلى حديث، أو ضمني مجلس، أو شملتني عزلة، أو اضطجعت لأنام، أو نهضت من منام، أو ذكرت ماضياً، أو فكرت في آت، أو أغمضت عيني متأملاً، أو فتحتهما على مشهد من مشاهد السماء والأرض، أجد في كل ذلك موضوعاً لمقالة أكتبها أو فصل أنشئه، وأجد

<<  <  ج:
ص:  >  >>