للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

الهمة حاضرة والذهن نشيطاً. ثم كرت أيام، وغبر دهر، وأصبحت لا أستطيع أن أخطر سطراً على قرطاس، وإذا كتبت لم أدر كيف أكتب، ولا لماذا. وأبعث بالذي أكتبه إلى (الرسالة) مضطرب الأعصاب مزلزلها، فإن أخرته غضبت، وإن ألفيت به تطبيعاً وخطئات لم يتنبه لها المصحح تألمت وإن وجدته نسب إليَّ ما لم أقل، ويجعل في المقالة أخطاء تدل على جهل الكاتب وما هي مني ولا أنا صاحبها، عزمت على ترك الكتابة بالمرة وكبر على الأمر، ثم إن جاءت المقالة منشورة قرأتها مرة لأطمئن عليها ومرة لأنقذها مجرداً من نفسي ناقداً لها، ثم أرميها فلا أطيق النظر فيها، ولا أجد من يحدثني عنها كأني أكتب لصخور الجبل لا لبنى آدم. . .

فماذا أفدت من الأدب؟ أما إني لم أجد الأدب إلا عبثاً، ولم أجد إلا مجانين، يسمى الناس وراء المال ويسعون وراء سراب خادع يسمونه (المجد الأدبي). كلما أقبلوا عليه نأي عنهم فما هم ببالغيه حتى يموتوا. وما ينفع ميتاً ذكر في الناس، ولا يغني عنه مجد، ما ينفعه إلا ما قدم من عمل صالح - ولقد كان رفيقي سعيد الأفغاني أعقل إذ كان يمد شفته ساخراً كلما حدثته عن آمالي في الحياة ورغبتي في أن أكون كاتباً يشار إليه بالأصابع؛ وكنا يومئذ في المدرسة الثانوية نتسابق إلى مطالعة الكتب ونتبارى في تلخيصها والملاحظة عليها. فما صنع الزمان بآمالي؟ لقد أراني أني كنت أسعى أطلب السراب، فلا أصل إلى شئ، وما ثمة شئ حتى أبلغه. . .

هذه هي قصة ابتلائي بهذا الأدب الذي أنا تاركه اليوم، أو ظان أني تاركه، ومقبل على الفقه أجدد العهد بما قرأت من كتبه، وواهب له قوتي ووقتي، فليهنأ الذين يجدون فيَّ سداً في وجوههم أن يبلغوا من الأدب ما يريدون، والذين يرون أني مزاحمهم على هذا المورد الآسن.

ولقد كنت أهزل يوم كتبت أفضل الأدب على العلم، وأين من أين؟ وهل تستوي الحقائق والأوهام؟ وهل من علم يوازي على الفقه ويضارعه شرفا، وبه يعرف الحلال من الحرام، وبه تضمن الحقوق، ويدرأ الخصام ويعم السلام. . .؟ ولئن فزع الشباب من زي أهل الفقه، وخافوا أن يوصموا بالجمود والرجعية، فما، يفزع ذلك من سمي بالشيخ وارتضاه له اسماً، ولا تثقل عليه عمامته إن كورها، ولا لحيته إن أطلقها. . . وللثياب، لا جرم، عمل

<<  <  ج:
ص:  >  >>