للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

في تكوين طبائع المرء وتوجيه سيرته، فأنت حين تتخفف من الثياب، أو تتخذ ثياب أهل الرياضة (السبور)، فتلبس السراويلات المناكير القصار أو التبان، تشعر بالخفة وتميل إلى القفز والتوثب، وتكره القرار على الأرض؛ فإن أطلت لبسه، أوشك أن يكون ذلك لك عادة، وإن لبست الجبة ولبثت على هامتك العمامة، ملت إلى التوقر والرزانة، ولم تستطع أن تأتي ما هو مناف لها، وتنزهت حتى عن قعود في قهوة، أو ولوج سينمة، أو إسراع في مشية في طريق أو مزحة نابية، أو قهقهة مقرقعة في مجلس. . .

وتتطبع على ذلك حتى يعود لك طبعاً. وإن اتخذت (البرنيطة) جنحت بالضرورة إلى مصاحبة أهلها ومجالستهم، وملت عن المساجد ومجالس العبادة، ولو كنت مصلياً متعبداً، ومن هنا جاء النهي عن التشبه بغير المسلمين، والأمثلة على ذلك كثيرة. . .

على أني إن تركت الأدب فما أنا بتارك الكتابة، وإن من الكتابة لعلماً، وإن منها لإصلاحاً، وإن منها لما ينفع الناس ويدلهم على طرق الخير. . . كما أن من الكتابة ما هو ثرثرة جميلة، وتسلية سخية، ولغو من القول يذهب جفاء. . . فلينظر ذوو الأقلام ما يأخذون منها وما يدعون، ولينظر القراء ما يقرؤون منها وما يهملون. . .!

أعتذر إلى القراء مرة ثانية من الحديث عن نفسي، فإنه أثقل الأحاديث على أذن السامع، ولكنها صناعة الأدب، قاتلها الله. . .

ولقد أردت حين شرعت في هذه المقالة أن أقول أشياء كثيرة زورتها في نفسي وأعددتها، فلما بلغت الكلام عن أول درس ألقيته، وذكرت هذه المرحلة من حياتي التي قضيتها معلماً، وتنقلت فيها في الآفاق، ورأيت فيها من المتع والآلام، ومن بيض الليالي وسود الأيام، ما لا يعلم حقيقته إلا الله. . . وما لم أصف في مقالاتي في (الرسالة) إلا الأقل الأقل منه. . .

لما بلغن ذلك اعتلج في نفسي من العواطف، وثار فيها من الذكر، ما عقل قلمي وحبسه عن المسير. وكيف أجمع في مقالة واحدة ما تفرق من قلبي في جنات دمشق، وقد علمت في كل مدرسة فيها، وفي (الحرش) الفتان من بيروت حيث (الكلية الشرعية) وعلى الشاطئ الوادع من دجلة حيث (الثانوية المركزية)، وفي طريق الأبلة إحدى متنزهات الدنيا الأربعة حيث (الثانوية البصرية)، وعلى سيف الفضاء الأرحب من (كركوك) بلد الذهب الأسود الذي يشتعل أبداً، وعلى ضفة الفرات الجميل في دير الزور، البلد الكريم أهله، وحيث أذكر

<<  <  ج:
ص:  >  >>