للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

أن يمضي معها في سبيل.)

وبعد فالشاعر أو الناثر الذي يفهم لغة الطبيعة ويتمرس بها لن يكون أدبه غثاً ولا تافهاً، ولن يجد فيما يخرج للناس أو لنفسه من شعر أو نثر عناء ولا عنتاً إلا بمقدار ما يختار من الألفاظ جزلها وما يسبغ على أسلوبه من طلاوة. ذلك بأنه في إبراز المعاني والأخيلة والتشبيهات لا يمنح من بئر عميق، ولا يرحل إلى مكان سحيق إنما يتناول ذلك كله مما أنطبع في نفسه، وأوحى به حسه، وانبجس من وجدانه، يجربه في قصبة يراعه فإذا هو شعر أو نثر يتسلسل تسلسل ماء النهر

هذا هو الأدب الذي توحي به الطبيعة أن صادفت نفساً صفية وإحساسا دقيقاً ووجداناً سامياً وخاطراً سريعاً. تجده أدباً حياً ناطقاً يصدر طواعية لإحساس موجود وشعور قائم بالنفس؛ ولا مراء في أن انطباع الصور في نفس الأديب شاعراً كان أم ناثراً هو الوسيلة التي تطوع له جيد الشعر أو النثر وذلك هو ما يعبرون عنه بهضم المعاني، يقصدون بالتعبير أن يكون المعنى قد أستقر في (بطن الشاعر) وجرى منه مجرى الدم وسرى فيه سريان الروح فلا يصدر إلا عما انطوى عليه إحساسه وقام بنفسه. وأنه ليجري مجرى هذا القول ما نراه من تأثر شاعر أو ناثر بشعر شاعر قبله أو ناثر تقدمه، أن كان المتأخر قد بذل جهداً في دراسة أدب المتقدم، وتقفي أثره وترسم خطاه. هنا لا نلبث أن نرى في شعر المتأخر وأدبه روح المتقدم ونفسه. وهنا يخطئ كثير من الناس فيحكمون على المتأخر بالسرقة؛ وإنه لتجن لا مسوغ له، وتعسف ليس له ما يجيزه. خذ مثلاً شعراء الأندلس في القرن الرابع الهجري، ترى أنهم أعجبوا بطريقة المتنبي ومذهبه وحاولوا السير على نهجه الذي ابتدع ولم يكن ذلك بدعاً فأن أهل المغرب إذ ذاك قد أغرموا بالتشبه بفحول الشعراء والأدباء من أهل المشرق؛ وأنك لواجد روح المتنبي ظاهرة بارزة في قول أبن هانئ الأندلسي:

فجزعتُ حتى ليس بي جزع ... وحذرتُ حتى ليس بي حذر

ومن ذا الذي لا يلمس المتنبي في قول أبن زيدون:

سر أن في خاطر الظلماء يكتمنا ... حتى يكاد لسان الصبح يفشينا

وهاك ابن زيدون هذا يقول في رسالته الهزلية: وغناك مسألة، ودينك وعلمك محزقة. ألا

<<  <  ج:
ص:  >  >>